الأول : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - تحدَّاهم تارة بكل القرآن، وتارة بعشر سورٍ، وتارة بسورةٍ واحدةٍ، وتارة بحديثٍ واحدٍ، وعجزوا عن المعارضة ؛ وذلك يدل على كون القرآن معجزاً.
الثاني : أنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة بعينها في قوله :﴿اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفرقان : ٥]، وأبطلها بقوله :﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الفرقان : ٦] أي : أنَّ القرآن مشتملٌ على الإخبارِ عن الغيوب، وذلك لا يتأتَّى إلا ممَّن يكون عالماً بأسرار السماوات، والأرض، ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين، وتكرر شرحهما مراراً ؛ لا جرم اقتصر ههنا على مجرد الوعيد.
قوله تعالى :﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار.
قال بعض المفسرين : المراد بالذين من قبلهم نمرودُ بن كنعان بنى صَرْحاً عظيماً بِبَابلَ طوله خمسة آلافِ ذراع، وعرضه ثلاثة آلافِ ذراع - وقيل : فرسخاً - ورام منه الصُّعودَ إلى السماء ؛ ليقاتل أهلها، فَهَبَّتْ ريحٌ وألقت رأسها في البحر، وعزَّ عليهم الباقي وهم تحته، ولما سقط الصَّرحُ تبلبلت ألسن النَّاس من الفزع يومئذ ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً ؛ فلذلك سمِّيت بابل، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية ؛ فذلك قوله تعالى :﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ﴾ أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها.
والصحيح : أنَّ هذا عامٌّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضَّرر والمكر بالمحقِّين.
واعلم أنَّ الإتيان ها هنا عبارةٌ عن إتيان العذاب، أي : أنهم لمَّا كفروا ؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلتْ منها بنيانهم من القواعد، و الأساس ؛ والمراد بهذا محض التَّمثيلِ والمعنى : أنَّهم رتبوا منصوباتٍ ؛ ليمكروا بها أنبياء الله ؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنياناً، وعمدوه بالأساطين، فانهدم ذلك البناءُ، وسقط السقف عليهم ؛ كقولهم :" مَنْ حَفَرَ بِئْراً لأخِيهِ أوْقعَهُ اللهُ فِيهِ ".
وقيل : المراد منه ما دل عليه الظاهر.
قوله تعالى :﴿مِّنَ الْقَوَاعِدِ﴾ " مِن " لابتداءِ الغايةِ، أي : من ناحية القواعد، أي : أتى أمر الله وعذابه.
قوله " مِنْ فَوقِهِمْ " يجوز أن يتعلَّق بـ " خَرَّ "، وتكون " مِن " لابتداءِ الغاية، ويجوز يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " السَّقف " وهي حال مؤكدة ؛ إذ " السَّقفُ " لا يكون تحتهم.
وقيل : ليس قوله :" مِنْ فَوقِهِمْ " تأكيدٌ ؛ لأنَّ العرب تقول :" خَرَّ عَليْنَا سَقفٌ، ووقَعَ عَليْنَا حَائِطٌ " إذا كان عليه، وإن لم يقع عليه، فجاء بقوله " مِنْ فَوْقِهِم " ليخرج به هذا الذي في كلام العرب، أي : عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا.
٤٤
وهذا غير طائل، والقول بالتوكيد أظهر.
وقرأ العامة :" بُنْيَانَهُمْ "، وقوم : بُنْيَتَهُمْ، وفرقة منهم أبو جعفر : بَيْتَهُم.
والضحاك : بُيوتَهُم.
والعامة :" السَّقْفُ " أيضاً مفرداً، وفرقة : بفتح السِّين، وضمِّ القاف بزنة " عَضُد " وهي لغة في " السَّقفِ " ولعلَّها مخففة من المضموم، وكثر استعمال الفرع ؛ لخفَّته، كقولهم في لغة تميم " رَجُلٌ " ولا يقولون : رجَُلٌ.
وقرأ الأعرج :" السُّقُف " بضمتين، وزيد بن علي : بضم السين، وسكون القاف، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل : ١٦] ثم قال :﴿وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ إن حملنا الكلام على محض التمثيل ؛ فالمعنى : أنَّهُمْ اعتمدوا على منصوباتهم، ثم تولَّد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر، فالمعنى : أن السَّقف نزل عليهم بغتة.
ثم بين - تعالى - أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذه القدر، بل الله - تعالى - يخزيهم [يومَ] القيامة، و الخِزْيُ : هو العذاب مع الهوانِ ؛ فإنه يقول لهم :﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾.
قال أبو العبَّاس المقريزيُّ - رحمه الله - : ورد لفظ " الخِزْي " في القرآن على أربعة [معانٍ] : الأول : بمعنى العذاب ؛ كهذه الآية ؛ وكقوله تعالى :﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء : ٨٧] أي : لا تُعذِّبني.
الثاني : بمعنى القَتْلِ ؛ قال تعالى :﴿فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة : ٨٥]، أي : القتلُ.
قيل : نزلت في بني قريظة، ومثله :﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ [الحج : ٩] أي : فضيحة.
قيل : نزلت في النضر بن الحارث.
الثالث : بمعنى الهوان، قال تعالى :﴿كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ﴾ [يونس : ٩٨] أي الهوان.
٤٥