وأهل السنة قالوا : معناه أنه - تعالى - أمر الرسول بالتبليغ فوجب عليهم،  فأمَّا أن الإيمان هل يحصل،  أو لا يحصل ؟ فذلك لا يتعلق بالرسولِ - صلوات الله وسلامه عليه - ولكنه تعالى يهدي من يشاءُ بإحسانه،  ويضل من يشاء بخذلانه،  ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ﴾ فإنه يدلُّ على أنه - تعالى - كان أبداً في جميع الأمم ؛ آمراً بالإيمان،  وناهياً عن الكفر.
 ثم قال :﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ أي : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان،  ومنهم من أضله عن الحق،  وأوقعه في الكفر،  وهذا يدلُّ على أنَّ أمر الله لا يوافق إرادته ؛ بل قد يأمر بالشيء ولا يريده،  وينهى عن الشيء وييده،  وقد تقدم تأويلات المعتزلةِ،  وأجوبتهم مراراً.
 والطاغوتُ : كل معبودٍ من دون الله،  وقيل : اجتنبوا الطَّاغوت : أي طاعة الشيطان.
 قوله :﴿أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ﴾ يجوز في " أنْ " أن تكون تفسيرية ؛ لأنَّ البعث يتضمن قولاً،  وأن تكون مصدرية،  أي : بعثناه بأن اعبدوا.
 قوله :﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ يجوز في " مَنْ " الأولى أن تكون نكرة موصوفة،  والعائد على كلا التقديرين محذوف من الأول،  وقوله " حقَّتْ " يدل على صحة مذهب أهل السنةِ ؛ لأنَّه تعالى لمَّا أخبر عنه أنَّه حقت عليه الضلالة،  امتنع أن لا يصدر منه الضلالة،  وإلاَّ لانقلب خبر الله تعالى الصدق كذباً،  وهو محال ؛ ويؤيده قوله :﴿فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ﴾ [الأعراف : ٣٠]،  وقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس : ٩٦] وقوله :﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ﴾ [يس : ٧] ثم قال - عز وجل - :﴿فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أي : مآل أمرهم،  وخراب منازلهم بالعذاب،  والهلاك ؛ فتعتبروا،  ثم أكد أنَّ من حقت عليه الضلالة ؛ فإنه لا يهتدي ؛ فقال تعالى :﴿إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ﴾ أي : تطلب بجهدك ذلك ؛ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ﴾.
 قوله ﴿إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ﴾ قرأ العامة بكسر الراء،  مضارع حرص بفتحها،  وهي اللغة الغالبة لغة الحجاز.
 وقرأ الحسن،  وأبو حيوة :" تَحْرَص " بفتح الراء،  مضارع حرص بكسرها،  وهي لغة لبعضهم،  وكذلك النخعيُّ : إلاَّ أنه زاد واواً قبل :" إنْ " فقرأ :" وإنْتحرصْ ".
 قوله :" لا يَهْدِي " قرأ الكوفيون بفتح الياءِ،  وكسر الدَّال،  وهذه القراءة تحتمل وجهين :
٥٤
أحدهما : أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله - تعالى - أي : لا يهدي الله من يضله ؛ فـ " مَنْ " مفعول " يَهْدِي " ؛ ويؤيده قراءة أبي :" فإنَّ الله لا هَادِي لمَنْ يضلُّ ولمَنْ أضلَّ " وأنه في معنى قوله :﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف : ١٨٦].
 والثاني : أن يكون الموصول هو الفاعل،  أي : لا يهدي المضلين،  و " يَهْدي " يجيء في معنى يهتدي،  يقال : هداهُ فهدى،  أي : اهتدى.
 ويؤيد هذا الوجه : قراءة عبد الله " يَهِدِّي " بتشديد الدال المكسورة،  والأصل يهتدي ؛ فأدغم.
 ونقل بعضهم في هذه القراءة كسر الهاء على الإتباع،  وتحقيقه ما تقدم في يونس،  والعائد على " مَنْ " محذوف،  أي : الذي يضله الله.
 والباقون " لا يُهْدَى " بضمِّ الياء،  وفتح الدال،  مبنيًّا للمفعول،  و " مَنْ " قائم مقام فاعله،  وعائده محذوف أيضاً.
 وجوَّز أبو البقاء : أن تكون " مَنْ " مبتدأ،  و " لا يَهْدِي " خبره - يعني - تقدم عليه.
 وهذا خطأ ؛ لأنه متى كان الخبر فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخيرهُ نحو :" زيْدٌ لا يَضْرِب "،  ولو قدمت لالتبس بالفاعل.
 وقرئ " لا يُهْدِي " بضم الياء وكسر الدال.
 قال ابن عطية - رحمه الله - :" وهي ضعيفة ".
 قال ابن حيَّان :" وإذا ثبت أن " هَدَى " لازم بمعنى اهتدى،  لم تكن ضعيفة ؛ لأنه أدخل همزة التعدية على اللازم،  فالمعنى لا يجعل مهتدياً من أضله الله ".
 وقوله تعالى :" ومَا لَهُمْ " حمل على معنى " مَنْ " فلذلك جمع.
 وقرئ :" مَنْ يَضِلُّ " بفتح الياء من " ضَلَّ " أي : لا يهدي من ضل بنفسه ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾،  أي :[ما يقيهم] من العذاب.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٢