ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر، فليس القصد به ههنا الأمر، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإذا كان كذلك بطل قوله : إنه نصب على جواب " كُنْ ".
فإن قيل : قوله " كُنْ " إن كان خطاباً مع المعدون ؛ فهو محالٌ، وإن كان خطاباً مع الموجود، كان أمراً بتحصيل الحاصل ؛ وهو محالٌ.
فالجواب : أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم ؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ، وعلى ما أراده من الإسراعِ، ولو أراد خلق الدنيا، والآخرة بما فيهما من السماوات، والأرض، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك ؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون.
فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله دلت هذه الآية على قدم القرآن ؛ لأنَّ قوله تعالى ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فلو كان قوله حادثاً ؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له : كن فيكون، وذلك يوجب التسلسل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ.
قال ابن الخطيب : وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه : أحدها : أنَّ كلمة " إذَا " لا تفيد التكرار ؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته :" إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ " فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار ؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن فيكون، فلم يلزم التَّسلسلُ.
وثانيها : أن هذا الدليل إن صح، لزم القول بقدم لفظ " كُنْ " وهذا معلوم البطلان بالضرورة ؛ لأنَّ لفظة " كُنْ " مركبة من الكاف والنُّون، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة، وعند مجيء النون تفوت الكاف، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة " كُنْ " يمتنع كونها قديمة، وإنَّما الي يدعي أصحابنا قدمه صفة [مغايرة] للفظ :" كُنْ " فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية ؛ فسقط التمسك به.
ثالثها : أنَّ الرجل إذا قال : إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ، ولا على فعل، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً ؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله ؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية ؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف ؛ فكذلك ما قالوه.
ورابعها : أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه : الأول : أن قوله تعالى ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ﴾ يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة ؛ فيكون محدثاً.
الثاني : أنه علق القول بكلمة " إذَا " وهي إنَّما تدخل للاستقبال.
الثالث : أن قوله تعالى :﴿أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال.
٥٨


الصفحة التالية
Icon