وقيل : في حال تلقُّبهم في أمكارهم، فيحول الله بينهم، وبين إتمام تلك الحيل.
وحمل التقلُّب على هذا المعنى، مأخوذ من قوله تعالى :﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ﴾ [التوبة : ٤٨].
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ هذا الجارُّ متعلق بمحذوفٍ ؛ فإنه حال، إمَّا من فاعل " يَأخُذهُمْ " وإما من مفعوله، ذكرهما أبو البقاء.
والظاهر كونه حالاً من المفعول دون الفاعل.
والتَّخَوُّفُ : تفعُّلٌ من الخَوفِ، يقال : خِفْتُ الشَّيء، وتخَوَّفتهُ.
والتَّخوُّفُ : التَّنقُّص، أي : نقص من أطرافهم، ونواحيهم، الشيء بعد الشيء حتًّى يهلك جميعهم، يقال : تخوَّفته الدَّهرَ ؛ وتخوفه، إذا نقصه، وأخذ ماله، وحشمه، ويقال : هذه لغة بني هذيل.
وقال الأعرابيِّ : تخوَّفتُ الشَّيءَ وتخيَّفتهُ إذا تنقَّصتهُ.
حكى الزمخشريُّ أن عمر - رضي الله عنه - سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا، فقام شيخٌ من هذيل، فقال : هذه لغتنا، التخَوُّف التنقُّص، فقال عمر : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟.
قال : نعم، قال شاعرنا :[البسيط] ٣٣١١ - تخوَّف الرَّحلُ منهَا تَامِكاً قَرِداً
كمَا تَخوَّفَ [عُودَ] النَّبْعةِ السَّفن
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٦
فقال عمر - رضي الله عنه - : أيُّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلُّوا، قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية ؛ فإنَّ فيه تفسير كتابكم، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير، وكأنه سهوٌ ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي ؛ ويؤيد ذلك قول الرجل : قال شاعرنا، وكان هذيلياً كما حكاه هو، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم، كما قال تعالى :﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ [الأنبياء : ٤٤] أي : لا نعاجلهم بالعذاب، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم.
ويحتمل أن النَّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلاً قليلاً حتى يفنوا جميعهم.
وقال الضحاك، و الكلبيُّ : من الخوف، أي : لا يأخذهم بالعذاب، أولاً ؛ بل يخيفهم، أو بأن يعذب طائفة ؛ فتخاف التي يليها.
٦٥
ثم قال :﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي يمهل في أكثر الأمر ؛ لأنه رءوف رحيم، فلا يعاجل بالعذاب.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٦
قوله :﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ الآية قرأ الأخوان :" تَرَوْا " بالخطاب جرياً على قوله :" فإنَّ ربّكُمْ ".
والباقون : بالياء جرياً على قوله :﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ﴾ [النحل : ٤٥].
وأما قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ﴾ [الملك : ١٩] فقراءة حمزة أيضاً بالخطاب، ووافقه ابن عامر فيه ؛ فحصل من مجموع الآيتين : أنَّ حمزة بالخطاب فيهما، والكسائي بالخطاب في الأولى، والغيبة في الثانية، وابن عامر بالعكس، والباقون : بالغيبة فيهما.
وأما توجيهُ الأولى فقد تقدم، وأما الخطاب في الثانية ؛ فجرياً على قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النحل : ٧٨] وأمَّا الغيبة ؛ فجرياً على قوله تعالى ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [النحل : ٧٣] إلى آخره، وأمَّا تفرقة الكسائي، وابن عامرٍ بين الموضعين ؛ فجمعاً بين الاعتبارين، وأنَّ كلاًّ منهما صحيح.
فصل لمَّا خوَّف المشركين بأنواع العذاب المتقدمةِ، أردفه بما يدلُّ على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي، والسفلي ؛ ليظهر لهم أنَّ مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير متناهية، كيف يعجز عن إيصال العذاب إليهم ؟ وهذه الرؤية لما كانت بصرية وصلت بـ " غلى " ؛ لأن المراد بها الاعتبارُ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية، حتى يكون مع النظر غلى الشيء الكامل في أحواله.
٦٦