قلت : إنه لو جيء بـ " مَنْ " لم يكن فيه دليلٌ على التغليب، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء، وغيرهم ؛ إرادة للعموم ".
قال أبو حيَّان :" وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء، وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص " مَنْ " بالعقلاءِ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون " مَنْ "، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها ؛ والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب ".
فصل قال الأخفش : قوله :" مِنْ دَابَّةٍ " يريد من الدَّواب، وأخبر بالواحدِ ؛ كما تقول : ما أتَانِي من رجلٍ مثله، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - :" يريد كل دابَّة على الأرضِ ".
فإن قيل : ما الوجه في تخصيص الملائكة، والدواب بالذكر ؟.
فالجواب من وجهين : الأول : أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.
الثاني : قال حكماءُ الإسلام : الدابَّةُ : اشتقاقها من الدَّبيب، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة ؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة ؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب ؛ لقوله ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام : ٣٨].
﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من فاعل " يسجد ".
قوله " يَخَافُونَ " فيها وجهان : أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم، كأنه قيل : ما لهم يستكبرون ؟ فأجيب بذلك، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل " لا يَسْتَكْبِرُونَ "، ومعنى " يَخافُونَ ربَّهُمْ "، أي : عقابه.
قوله :" مِنْ فَوْقِهِمْ " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه ينعلق بـ " يَخَافُونَ "، أي : يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله " مِنْ فوقِهِمْ " صفة للمضاف، وهو عذابٌ، وهي صفة كاشفةٌ ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق.
٧٣