الثاني : أن ذلك الخوف خوف الإجلال ؛ هكذا نقل عن ابن عباس ؛ كقوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر : ٢٨] وكقول النبي ﷺ " إنِّي لأخْشَاكُم للهِ " حين قالوا له وقد بكى : أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر ؟.
وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ، كان الخوف منه أعظم.
وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء.
فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم استدل المشبهة بقوله تعالى :﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ﴾ على أنه - تعالى - فوقهم بالذات.
والجواب : أن معناه : يخافون ربَّهم ؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى ؛ سقط استدلالهم، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة، والقهر والغلبة ؛ لقوله تعالى :﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف : ١٢٧] ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال :﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ﴾ فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم ؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وهذا التعليل، إنَّما يصدح إذا كان المراد بالفوقية، القهر والقدرة ؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف، وأما الفوقية بالجهة، والمكان، فلا توجب الخوف ؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده.
فصل في أن الملك أفضل من البشر تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه : الأول : قوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلا اائِكَةُ﴾ وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب، وكان الطرف الثاني أشرفها، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عز وجل -.
الثاني : أن قوله ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر، وترفع، وقوله تعالى :﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب، و المعصية، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم، وظواهرهم، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة، والأفعال الباطلة، وأما البشر، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى :﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ﴾ [عبس : ١٧] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة.
٧٥
وأما الخبر، فقوله عليه الصلاة والسلام - :" مَا منَّأ إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا ".
ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى، أو همَّ بها.
الثالث : أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة، وأزمان ممتدة، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة، والخضوع، والخشوع طول هذه المدَّة، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين : الأول : قوله - صلوات الله وسلامه عليه - :" الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ " فضَّل الشيخ على الشابّ ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر ؛ فكان أفضل.
والثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ " فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها، لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة، وهي طاعة الخالق، والبشر إنما جاءوا بعدهم، واستنُّوا بسُنَّتهِم ؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب،
٧٦