مَكْظُومٌ} [القلم : ٤٨]، والجملة حالٌ، وبجوز أن يكون :" وهُوَ كَظيمٌ " حالاً من الضَّمير في " ظلَّ " أو من " وَجْههِ " أو من الضمير في :" مُسْودًّا ".
وقال أبو البقاءِ :" فلو قرئ هنا " مُسْوَدٌّ " يعني بالرفع، كلان مستقيماً على أن يجعل اسم " ظل " مضمراً فيها، والجملة خبرها ".
وقال في سورة الزخرف [الآية : ١٧] :" ويقرآن بالرفع على أنه مبتدأ، وخبر في موضع خبر ظلَّ ".
قوله :﴿يَتَوَارَى ﴾ يحتمل أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه إلا " وجْههُ " فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في :" كَظِيمٌ ".
قوله ﴿مِنَ الْقَوْمِ مِن سُواءِ﴾ تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلَّة، أي : من أجل سوء ما بشِّر به.
قوله :" أيُمْسِكهُ " قال أبو البقاء :" في موضع الحال، تقديره : يتوارى، أي : مُتردِّداً هل يمسكه أم لا ؟ ".
وهذا خطأٌ عند النحويين ؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال، لا تقع جملة طلبيَّة، و الذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل " يَتوارَى "، ليتم الكلام، أي : يتوارى ناظراً، أو متفكِّراً :" أيُمسِكهُ على هُونٍ...
أمْ يدُسُّه " على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ " مَا ".
وقرأ الجحدريُّ : أيُمْسِكُها، أم يدسُّها مراعاة للأنثى، أو لمعنى " مَا ".
وقرئ : أيمسكهُ أم يدسُّها، والجحدري، وعيسى - رحمهما الله - على " هَوان " بزنة فدان، وفرقة على " هَوْنٍ " وهي قلقة ؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء : الرِّفقُ، واللينُ، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا الهوان فمعنى " هُونٍ " المضموم.
قوله :﴿عَلَى هُونٍ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإنه قال : أيمسكه مع [رضاء] بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه.
والثاني : أنه حالٌ من المفعول، أي : يمسكها ذليلة مهانة.
والدَّس : إخفاء الشيء، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ.
فصل معنى الآية : أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه
٨٩
غمًّا، وحزناً، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره، وانبسط روح قلبه من داخل البدن، ووصل إلى الأطراف، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب، والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه، وتلألأ، واستنار، وإذا قوي غمُّ الإنسان احتقن الروحُ في داخل القلب، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه، فلا جرم يصفرُّ الوجه، ويسودُّ، ويظهر فيه أثر الأرضية، والكآبة ؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه، وإشراقه، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه، وغبرته، وسواده، فلهذا قال :﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أي ممتلئ غمًّا " يتوارى " به من القوم يتنحى عنهم ويتغيَّب من سوء ما بشِّر.
قال المفسِّرون : كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً ؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن، ولم يظهر أياماً يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها ؟ وهو قوله :﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾، أي : أيحتبسه ؟ والإمساك هنا : الحبس، كقوله :﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب : ٣٧] والهُونُ : الهَوان.
قال النضر بن شميلٍ : يقال : إنه أهون عليه هوناً، وهَواناً، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى :﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأنعام : ٩٣].
﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ والدَّسُ : إخفاءُ الشيء في الشيء، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ.
قال قيس بن عاصم : يا رسول الله :" إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة، فقال - صلوات الله وسلامه عليه - : أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة "، فقال : يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ، فقال - عليه الصلاة والسلام - " أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً ".
وروي " أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها، فأخْرَجتْهَا إليّ فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ، فقالت : يا أبَتِ قَتَلتَنِي، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ، فقال ﷺ " مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ ".
واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات، فمنهم من يذبحها، ومنهم من يحفر الحفيرة، ويدفنها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ، ومنهم من يغرقها، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة، وتارة للحميَّة، وتارة خوفاً من الفقر، والفاقة، ولزومِ النَّفقةِ.
٩٠