مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليلٌ قاطع على إثبات هذا المقصود.
اعلم أنه - تعالى - قال :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ يقال : وحَى وأوْحَى وهو هنا الإلهام، والمعنى : أنَّه - تعالى - قرَّر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجوه : الأول : أنها تبني البيوت مسدَّسة من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرَّد طبائعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل : المسطرة والبيكار.
الثاني : أنه ثبت في الهندسة أنَّ تلك البيوت لو كانت مشكلة باشكال سوى المسدَّسات، فإنه يبقى بالضَّرورة فيما بين تلك البيوت فرجٌ خالية ضائقة أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة، فإنه لا يبقى فيها فرج خالية ضائقة فاهتداء ذلك الحيوان الضَّعيف إلى تلك الحكمة الخفيَّة الدَّقيقة اللَّطيفة من الأعاجيب.
الثالث : أن النَّحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرَّئيس للبقيَّة، وذلك الواحد يكون أعظم جثَّة من الباقي، ويكون نافذ الحكم على البقيَّة وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه، وذلك أيضاً من الأعاجيب.
الرابع : أنها إذا نفرت وذهبت من وكرها مع الجماعة إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها، ضربوا الطبول وآلات الموسيقى، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردِّها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالةٌ عجيبةٌ، فلمَّا امتاز هذا الحيوان بهذه الخواصِّ العجيبة الدالَّة على مزيد الذَّكاء والكياسة، ليس إلا على سبيل الإلهام، وهي حالة شبيهة بالوحي، لا جرم قال - سبحانه وتعالى - في حقِّها :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾.
فصل قال أبو العباس أحمد بن علي المقري - رحمه الله - : الوحي يردُ على ستَّة أوجه : الأول : الرِّسالة ؛ قال - تعالى - :﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ [النساء : ١٦٣]، أي : أرسلنا إليك.
الثاني : الإلهام ؛ قال - تعالى - :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل : ٦٨].
الثالث : الإيماءُ، قال - تعالى - :﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ﴾ [مريم : ١١] أي : أومأ إليهم.
الرابع : الكتابة، قال - تعالى - :﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام : ١٢١] أي : يكتبون إليهم.
الخامس : الأمر، قال - تعالى - :﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة : ٥]، أي : أمرها.
السادس : الخلق، قال - تعالى - :﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصلت : ١٢]، أي : خلق.
١١٠
قال القرطبي : الإلهام هو ما يخلقه الله - تعالى - في القلب ابتداء من غير سبب ظاهرٍ ؛ قال - تعالى - :﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس : ٧، ٨] ومن غير ذلك البهائم وما يخلقه الله فيها من إدراك منافعها، واجتناب مضارِّها، وتدبير معاشها، وقد أخبر الله - تعالى - عن الأرض فقال :﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة : ٤، ٥].
واعلم أن الوحي قد ورد في حقِّ الأنبياء ؛ قال - تعالى - :﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى : ٥١]، وفي حقِّ الأولياء ؛ قال - تعالى - :﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة : ١١١] وبمعنى الإلهام في حقِّ بقية البشر ؛ قال - تعالى - :﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى ﴾ [القصص : ٧] وفي حقِّ سائر الحيوانات بمعنى خاصّ.
قال الزجاج : يجوز أن يقال : سمِّي هذا الحيوان نحلاً ؛ لأن الله - تعالى - نحل النَّاس العسل الذي يخرج من بطونها.
وقال غيره : النَّحل يذكَّر ويؤنث على قاعدة أسماء الأجناس، فالتأنيث فيها لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله - تعالى - وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلاَّ الهاء.
وقرأ ابن وثَّاب :" النَّحَل " بفتح الحاء، فيحتمل أن يكون لغة مستقلة، وأن يكون إتباعاً.
قوله " أن اتَّخذِي " يجوز أن تكون مفسِّرة، وأن تكون مصدريَّة.
واستشكل بعضهم كونها مفسِّرة، قال : لأنَّ الوحي هنا ليس فيه معنى القول ؛ إذ هو الإلهام لا قول فيه.
وفيه نظر ؛ لأن القول لكل شيء بحسبه.
و " مِنَ الجِبَالِ " " من " فيه للتبعيض ؛ إذ لا يتهيَّأ لها ذلك في كل جبلٍ ولا شجر، وتقدَّم القول في " يَعْرِشُون " ومن قرأ بالكسر والضم في الأعراف.
والمراد بـ " ممَّا يَعْرِشُونَ " ما يبنون لها من الأماكن التي تأوي إليها، وقرئ :" بِيُوتاً " بكسر الباء.
فصل اعلم أن النَّحل نوعان : أحدهما : ما يسكن الجبال والغياض ولا يتعهَّدها أحد من النَّاس.
والثاني : ما يسكن البيوت ويتعهَّدها الناس، فالأول هو المراد بقوله عز وجل :﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ﴾.
١١١