أمَّا بيان كمال العلم، فقوله - تعالى - :﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أفاد الحصر بأنَّ العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله - تعالى -.
وأما بيان كمال القدرة، فقوله - عز وجل - :﴿وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ والسَّاعة : هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سمِّيت ساعة ؛ لأنَّها تفجأ الإنسان في ساعة يموت الخلق كلهم بصيحة واحدة أي إذا قال له :﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس : ٨٢] والمراد بـ " لَمْحِ البَصرِ " : طرفةُ العين وهو النظر بسرعة، يقال : لَمحَهُ بِبصَرِه لَمْحاً ولَمحَاناً، وقيل : أصله من لَمحَانِ البَرْق، وقولهم : لأرينَّك لَمْحاً بَاصِراً، أي : أمْراً وَاضِحاً، والمراد بيان كمال القدرة.
وقوله :﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ ليس المراد منه الشَّك، بل المراد : بل هو أقرب.
قال الزجاج : المراد به : الإبهام على المخاطبين أنه - تعالى - يأتي بالسَّاعة إما بقدر لمح البصر، أو بما هو أسرع ؛ لأنَّ لمح البَّصر عبارة عن انتقال الطَّرف من أعلى الحدقةِ إلى أسفلها، والحَدقةُ مركبة من أجزاء لا تتجزَّأ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة أجزاءِ الحدقةِ، ولا شكَّ أنَّ تلك الأجزاء كثيرة، والزَّمانُ الذي يحصل فيه لمحُ البصر مركب من أزمانٍ متعاقبةٍ، والله - تعالى - قادرٌ على إقامة القيامة في زمان واحد من تلك الأزمان ؛ فلهذا قال - تعالى - :﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ تنبيهاً على ذلك، فقوله :﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾، أي : أمره، فالضمير للأمر، والتقدير : أو أمر الساعة أقرب من لمح البصر.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ نزلت في الكفَّار الذين استعجلوا القيامة استهزاءً.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ١٢٢
قوله - تعالى - :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ لما بين كمال القدرة والعلم، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾.
قرأ حمزة والكسائي :" إمَّهاتِكُمْ " بكسر الهمزة، والباقون بضمِّها، وأصل
١٢٧
" أمَّهاتِكُم " : إمَّاتكُم، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في " أراق " فقيل : أهراق، وشذَّت زيادتها في الواحدة في قوله :[الرجز]
٣٣٥٠ - أمَّهَتِي خِندِفُ واليَاسُ أبِي
والجملة من قوله :﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ حالٌ من مفعول " أخْرَجَكُمْ " غير عالمين و " شَيْئاً " إمَّا مصدر، أي : شيئاً من العلم، وإمَّا مفعول به والعلم هنا العرفان، وتقدَّم الكلام في " أمَّهَاتِكُمْ " في النِّساء.
فصل خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء.
ثم قال تعالى - :﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ والمعنى : أن النَّفس الإنسانية ك انت في أول الخلقةِ خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس ؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم، وتحقيق الكلام فيه أن يقال : التَّصوُّرات والتَّصديقات إمَّا أن تكون كسبيَّة أو بديهيَّة ؛ والكسبيَّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيَّات، فلا بد من سبق العلوم البديهيَّة.
فإن قيل : هذه العلوم البديهية إمَّا أن يقال : كانت حاصلة منذ خلقنا، أو ما كانت حاصلة ؛ ولأول باطل ؛ لأنا بالضرورة نعلمُ أنَّا حين كنَّا جنيناً في رحم الأمِّ ما كنَّا نعرفُ ن النَّفي والإثبات لا يجتمعان، وما كنَّا نعرف أن الكلَّ أعظم من الجزء.
وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنَّها ما كانت حاصلة، وحينئذٍ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكلُّ ما كان كسباً فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وذلك محال.
فالجواب : أن هذه العلوم البديهيَّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولاً، ثم إنها حدثت، وحصلت، أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية، فهذه المقدمة ممنوعة، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئاً أو سمعه مرة بعد أخرى، ارتسم في خياله ماهيَّة ذلك المبصر والمسموع ؛ وكذلك القول في سائر الحواسِّ، فيصير حصول الحواسِّ سبباً لحضور ماهيَّات المحسوسات في النَّفس والعقل.
١٢٨