فأما علم الأصول : فهو بتمامه موجوٌ في القرآن.
وأما علم الفروع : فالأصل براءة الذِّمَّة، إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب، وذلك يدلُّ على أنه لا تكليف من الله إلاَّ ما ورد في هذا القرآن، وإذا كان كذلك، كان القول بالقياس باطلاً، وكان القرآن وافياً بتبيان كل الأحكام.
قال الفقهاء : إنَّما كان القرآن " تِبياناً لكل شَيْءٍ " ؛ لأنه دلَّ على أنَّ الإجماع حجةٌ، وبر الواحد، والقياس حجة، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصولِ، كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن، وقد تقدمت هذه المسألة في سورة الأعراف.
قال المفسرون :" تِبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ " يحتاج إليه الأمرِ، والنهيِ والحلالِ، والحرامِ، والحدودِ، والأحكامِ، " وهُدًى " من الضَّلالةِ، " ورحْمَةٌ " و " بشرى " وبشارة " للمسلمين "، قوله :" للمسلمين " متعلق بـ " بشرى "، وهو متعلق من حيث المعنى بـ " هدى ورحمة " أيضاً.
وفي جواز كون هذا من التنازع، نظر، من حيث لزوم الفصل بين المصدر، ومعموله بالظرف، حال إعمالك غير الثالث ؛ فتأمَّلهُ.
وقياس من جوَّز [التنازع] في فعل التعجب، والتزام إعمال الثاني ؛ لئلاَّ يلزم الفصل أن يجوم هذا على هذه الحالة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ١٣٩
قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ الآية لما شرح الوعد، والوعيد، والتَّرغيب، والتَّرهيب، أتبعه بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ فجمع في هذه الآية ما
١٤١
يتصل بالتكاليف ؛ فئضاً، ونفلاً، وما يتصل بالأخلاق، والآداب : عموماً وخصوصاً.
روى ابن عباس - رضي الله عنه - : أن عثمان بن مظعون الجمحيَّ قال : ما أسلمتُ أولاً إلاَّ حياء من محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم، فبينما هو يحدِّثني، إذ رأيت بصره شخص إلى السماءِ، ثم خفضه عن يمينه، ثم عاد لمثل ذلك ؛ فسألته - صلوات الله وسلامه عليه - فقال :" بينما أنا أحدِّثك إذ بجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - ينل عن يميني، فقال : يا محمد، إنَّ الله - تعالى - يأمرك بالعدل : شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان : القيام بالفرائض، وإيتاء ذي القربى، أي : صلة القربى، وينهى عن الفحشاء : الزِّنا، والمنكرِ : ما لا يعرف في شريعة، ولا سنة، والبغي : الاستطالة ".
قال عثمان : فوقع الإيمان في قلبي، فأتيت أبا طالب ؛ فأخبرته، فقال : يا معشر قريش، أتَّبعُوا ابن أخي ؛ ترشدوا، ولئن كان صادقاً أو كاذباً، فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، فلما رأى الرسول ﷺ من عمه اللِّين قال : يا عمَّاه، أتأمر الناس أن يتَّبعوني، وتدع نفسك! وجهد عليه ؛ فأبى أن يسلم ؛ فنزل :﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص : ٥٦].
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - " إنَّ أجمع آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرٍّ هذه الآية ".
وعن قتادة : ليس في القرآن من خلقٍ حسنٍ، كان في الجاهلية يعمل، ويستحسن، إلاَّ أمر الله - تعالى - به في هذه الآية، وليس من خلقٍ سيِّءٍ، إلاَّ نهى عنه في هذه الآية.
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال : طأمر الله - تعالى - نبيَّهُ أن يعرض نفسه على قبائل العرب ؛ فخرج، وأنا معه وأبو بكرٍ - رضي الله عنه - فوقفنا على مجلسٍ عليهم الوقارُ، فقال أبُو بكر - رضي الله عنه - : ممَّن القوم ؟ فقالوا : من شيبان، فدعاهم رسول الله ﷺ إلى الشهادتين إلى أن ينصروه ؛ فإنَّ قريشاً كذَّبوه، فقال مقرون بن عمرو : إلام تدعونا، أخا قريش ؟ فقال رسول الله ﷺ :﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ الآية فقال
١٤٢