إذا ثبت هذا، فقوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ معناه : أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكُّر، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له، فكيف طلب منه تحصيله ؟ وهذا هو الذي يحتجُّ به أهل السنَّة على أنَّ قوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لا يدلُّ على أنه - تعالى - يريد ذلك منه.
قوله - تعالى - :﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ الآية لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد.
قال الزمخشري : عهد الله : هي البيعة لرسول الله ﷺ على الإسلام ؛ لقوله - تعالى - :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح : ١٠]، ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ وقيل : كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : والوَعْدُ من العهد.
وقال ميمون بن مهران : من عاهدته، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً، فإنَّماوفاء العهد لله - تعالى -.
وقال الأصم : المراد منه الجهاد، وما فرض الله في الأموال من حق، وقيل : عهد الله هو اليمين بالله.
قال الشعبي : العهد يمين الله، وكفَّارته كفارة يمين، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وليكفرْ عن يَمينهِ ".
واعلم أن قوله - تعالى - :﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه، ويؤيِّده قوله - عز وجل - بعد ذلك :﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾، وأيضاً : يجب ألا يحمل العهد على اليمين ؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين، لكان قوله بعد ذلك :﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ تكرار ؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان ؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك ؛ إلاَّ إذا قلنا : إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر ؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم، يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات والمؤكدات بالحلف.
قوله :" بَعْدَ تَوكِيدهَا " متعلق بفعل النَّهي، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو وفيه لغة أخرى : أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز، ومعناه : التقوية ؛ وهذا كقولهم : أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ،
١٤٧
وليست الهمزة بدلاً من واو كما زعم أبو إسحاق ؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك، ثم قال : طولا يحسن أن يقال : الواو بدل من الهمزة، كما لا يحسن أن يقال ذلك في " أحد "، إذ أصله " وحَد " فالهمزة بدلٌ من الواو " يعني : أنه لا قائل [بالعكس].
وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً، و " تَوْكيدِهَا " مصدر مضافٌ لمفعوله، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء، ولا ثاني له في القرآن، أعني : أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف.
قوله تعالى :﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ﴾ الجملة حال : إمَّا من فاعل " تَنْقضُوا "، وإمَّا من فاعل المصدر وإن كان محذوفاً.
فصل المعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها، و ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾ : شهيداً عليكم بالوفاء.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ قالت الحنفيَّة : يمين اللَّغو هي يمين الغموس ؛ لقوله - تعالى - :﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ فنهى عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث، فوجب ألا يكون من الأيمان.
وقال غيرهم : هي قول الإنسان في معرض حديثه : لا والله، وبلى والله ؛ لأن قوله - تعالى - ﴿بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد، وبين غيرها.
واعلم أن قوله - تعالى - :﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ عامٌّ دخله التخصيص ؛ لما تقدَّم من قوله - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ وليُكفر عن يَمينهِ ".
ثم إنه - تعالى - ضرب مثلاً لنقض العهد، فقال - جل ذكره - :﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾، أي : من بعد إبرامه وإحكامه.
قال الكلبيُّ ومقاتل - رحمهما الله تعالى - : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش، يقال لها : ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زبد مناة بن تميم، وتلقب بـ " جعراء "، وكانت بها وسوسة وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع، وصنَّارة مثل الأصبع، وفلكة عظيمة
١٤٨


الصفحة التالية
Icon