قال قتادة :" إفسادهم في المرَّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم ".
وقال ابن إسحاق :" إفسادهم في المرَّة الأولى قتل شعيا في الشجرة، وارتكابهم المعاصي ".
﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ﴾.
قال قتادة :" يعني جالوت وجنوده، وهو الذي قتلهُ داود، فذاك هو عودُ الكرَّة ".
وقال سعيد بن جبيرٍ :" سنحاريب من أرض نينوى " وقال ابن إسحاق :" بُخْتَنصَّر البابليّ وأصحابه " وهو الأظهر، فقتل منهم أربعين ألفاً ممَّن يقرأ التوراة، وذهب بالبقيَّة إلى أرضه، فبقوا هناك في الذلِّ إلى أن قيَّض الله ملكاً آخر من أهل بابل، واتَّفق أن تزوَّج بامرأةٍ من بني إسرائيل، فطلبت تلك المرأةُ من ذلك الملك أن يردَّ بني غسرائيل غلى بيت المقدس، ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، وهو قوله :﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾.
وقال آخرون : يعني بقوله :﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ﴾ هو أنه تعالى ألقى الرُّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس، فقصدوهم، وبالغوا في قتلهم، وإفنائهم، وإهلاكهم.
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرضٍ في معرفة الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لمَّا أكثروا من المعاصي، سلَّط الله عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم.
فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر احتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القضاء والقدر من وجهين : الأول : أنه تعالى قال :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾، وهذا القضاءُ أقلُّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم، فثبت أنَّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً وجزماً، حتماً، لا يقبل النَّسخ ؛ لأنَّ القضاء معناه الحكم الجزم، ثم إنه الله تعالى أكَّد القضاء بقوله :﴿وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً﴾.
فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وانقلاب حكمه الجازم باطلاً، وانقلاب علمه الحقِّ جهلاً، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم
٢١٢
على ذلك الفساد محالاً، وكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً، لا يقبل النَّسخ والرفع، مع أنَّهم كلِّفُوا بتركه، ولعنوا على فعله ؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدُّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه.
الثاني : قوله :﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنَّهب والأسر، فبيَّن تعالى أنَّه هو الذي بعثهم على بعثهم على بني إسرائيل، ولا شكَّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة.
ثم إنه تعالى أضاف كلَّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله : ثم ﴿بَعَثْنَا﴾ وذلك يدلُّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى.
أجاب الجبائيُّ عنه من وجهين : الأول : قوله :" بَعَثْنَا " هو أنَّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل ؛ لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمرُ.
والثاني : أنَّ المراد : خَلَّيْنَا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم، فالمراد من هذا البعث التخليةُ وعدم المنع.
والجواب الأوَّل ضعيفٌ ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس، وإحراق التوراة، وقتل حفَّاظ التوراة لا يجوز أن يقال : إنهم فعلوا ذلك بأمر الله.
والجواب الثاني أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنَّ البعث عبارةٌ عن الإرسال، والتخلية عبارةٌ عن عدم المنع، فالأول فعلٌ، والثاني تركٌ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدَّين بالآخر، وإنه لا يجوز، فثبت صحَّة ما ذكرناه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٢١٠
قوله تعالى :﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ الآية لما حكى تعالى عنهم بأنَّهم لما عصوا، سلَّط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنَّهب، فعند ذلك ظهر أنههم أطاعوا، فقال تعالى : إن أطاعوا، فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصرُّوا على المعصية، فقد أساءوا إلى أنفسهم، وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النَّفْس حسنٌ مطلوبٌ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ، فلهذا المعنى قال تعالى :﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾.
قوله تعالى :﴿فَلَهَا﴾ : في اللام أوجه : أحدها : أنها بمعنى " على " أي : فعليها كقوله :[الطويل]
٢١٣
٣٣٨٠ -...................
فَخَرَّ صَرِيعاً لليَدَيْنِ وللْفَمِ


الصفحة التالية
Icon