لما شرح فعله في حقِّ عباده المخلصين، وهو الإسراء برسول الله ﷺ وإيتاء التَّوراة لموسى - عليه السلام، وما فعله في حقِّ العصاة، وهو تسليطُ البلاء عليهم - كان ذلك تنبيهاً على أنَّ طاعة الله توجب كلَّ خيرٍ، ومعصيته توجب كلَّ بلية، ولا جرم أثنى على القرآن، فقال تعالى :﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.
قوله تعالى :﴿لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ : نعتٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي : للحالةِ، أو للملَّة، أو للطريقة قال الزمخشريُّ :" وأيّتما قدَّرتَ ؛ لمْ تَجِدْ مَعَ الإثباتِ ذَوْقَ البلاغة الذي تَجدهُ مع الحذفِ ؛ لِما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامةٍ تفقد مع إيضاحه ".
قال ابن الخطيب : وقولنا : هذا الشَّيء أقومُ من ذاك إنما يصح في شيئين اشتركا في معنى الاستقامة، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين، أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية، وهذا هنا محال ؛ فكان وصفه بأنه أقوم مجازاً، إلا أن لفظ " أفْعَل " قد جاء بمعنى الفاعل، كقولنا :" اللهُ أكْبَرُ "، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن ؛ كقوله تعالى :﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [المؤمنون : ٩٦] أي بالخصلة التي هي أحسنُ.
ومعنى " هِيَ أقْومُ " أي : إلى الطريقة التي هي أصوبُ.
وقيل : إلى الكلمة التي هي أعدلُ وهي شهادة أن لا إله إلا الله ﴿وَيُبَشِّرُ﴾ - يعني القرآن - ﴿الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ﴾ أي : بأنَّ لهم ﴿أَجْراً كَبِيراً﴾ وهو الجنَّة.
قوله تعالى :﴿وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ : فيه وجهان : أحدهما : أن يكون عطفاً على " أنَّ " الأولى، أي : يُبشِّرُ المؤمنين بشيئين : بأجرٍ كبيرٍ، وبتعذيب أعدائهم، ولا شكَّ أنَّ ما يصيب عدوَّك سرورٌ لك، وقال الزمخشري :" ويحتمل أن يكون المراد : ونخبر بأنَّ الَّذينَ ".
قال أبو حيّان :" فلا يكون إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ ".
قال شهابُ الدِّين : قول الزمخشريُّ يحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون قوله " ويحتمل أن يكون المراد : ويخبر بأنَّ " من باب الحذف، أي : حذف " ويُخْبِرُ " وأبقى معموله، وعلى ه١ذا فيكون " أنَّ الَّذينَ " غير داخلٍ في حيِّز البشارة بلا شكٍّ، ويحتمل أن يكون قصده : أنه يريد بالبشارة مجرَّد الإخبار، سواءٌ كان بخيرٍ أم بشرٍّ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدهما، وحينئذ يكون جمعاً بين الحقيقة والمجاز ؛ أو استعمالاً للمشترك في معنييه ؛ وفي المسألتين خلافٌ مشهورٌ، وعلى هذا : فلا يكون قوله " وأنَّ الَّذينَ لا يؤمِنُونَ " غير داخلٍ في حيِّز البشارةِ، إلاَّ أنَّ الظاهر من حالِ
٢١٨
الزمخشريِّ : أنَّه لا يجيزُ الجمع بين الحقيقةِ والمجازِ، ولا استعمال المشتركِ في معنييه.
فصل اعلم أن العمل الصَّالحَ، كما يوجب لفاعله النَّفع الأكمل الأعظم، كذلك تركه يوجب الضَّرر الأكمل الأعظم، فإن قيل : كيف يليقُ لفظ البشارة بالعذاب ؟.
فالجواب : هذا مذكورٌ على سبيل التهكُّم، أو من باب إطلاق أحد الضِّدَّين على الآخر ؛ كقوله تعالى :﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى : ٤٠] وتقدَّم الكلام عليه قبل الفصل، فإن قيل : هذه الآية [واردة] في شرح أحوالِ اليهود، وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة، فكيف يليق بهذا الموضع قوله تعالى :﴿وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ ؟.
فالجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنَّ أكثر اليهود ينكرُون الثواب والعقاب الجسمانيين.
والثاني : أن بعضهم قال :﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران : ٢٤] فهم بهذا القول صاروا كالمنكرينَ للآخرةِ.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٢١٧
في الباءين ثلاثة أوجه : أحدها : أنهما متعلقتان بالدُّعاء على بابهما ؛ نحو :" دَعوْتُ بكذا " والمعنى : أنَّ الإنسان في حال ضجره قد يدعو بالشَّر، ويلحُّ فيه، كما يدعو بالخير ويلحُّ فيه.
والثاني : أنهما بمعنى " في " بمعنى أنَّ الإنسان إذا أصابه ضرٌّ، دعا وألحَّ في الدعاءِ، واستعجل الفرجَ ؛ مثل الدعاءِ الذي كان يحبُّ أن يدعوهُ في حالة الخير، وعلى هذا : فالمدعوُّ به ليس الشرَّ ولا الخير، وهو بعيدٌ.
الثالث : أن تكون للسَّبب، ذكره أبو البقاء، والمعنى لا يساعده، والمصدر مضافٌ لفاعله.
وحذفت الواو ولفظها الاستقبال بللاَّم الساكنة ؛ كقوله تعالى :﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق : ١٨] وحذف في الخط أيضاً، وهي غير محذوفة في المعنى.
فصل في نظم الآية وجه النَّظم : أن الإنسان بعد أن أنزل الله - تعالى - عليه هذا القرآن، وخصه بهذه
٢١٩