تقدير جيدٌ، وقال الزمخشري في تقديره :" كلَّ واحدٍ من الفريقين [نُمِدُّ] ".
قال أبو حيان :" كذا قدَّره الزمخشري، وأعربوا " هؤلاءِ " بدلاً من " كُلاًّ " ولا يصح أن يكون بدلاً مِنْ " كل " على تقدير : كلَّ واحدٍ ؛ لأنَّه إذ ذاك بدل كلٍّ من بعضٍ، فينبغي أن يكون التقدير : كل الفريقين ".
و " مِنْ عطاءِ " متعلقٌ بـ " نُمِدُّ " والعطاء اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول.
والمحظور : الممنوعُ، وأصله من الحظر، وهو : جمعُ الشيء في حظيرة، والحظيرة : ما يعمل من شجرٍ ونحوه ؛ لتأوي إليه الغنم، والمحتظرُ : من يعمل الحظيرة.
فصل قال القفال - رحمه الله - : هذه الآية داخلة في معنى قوله :﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء : ١٣] : ومعناه : أن العمَّال في الدنيا قسان : منهم من يريد بعمله الدنيا والرياسة، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء - عليه الصلاة والسلام -، والدخول في طاعتهم ؛ خوفاً من زوال الرِّياسة عنهم، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً ؛ لأنه في قبضة الله ؛ فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء الله.
بل إن عاقبته جهنَّم يدخلها فيصلاها بحرِّها مذموماً ملوماً، مدحوراً مطروداً من رحمة الله.
وفي لفظ هذه الآية فوائد : أحدها أنَّ العقاب عبارة عن مضرَّة مقرونةٍ بالإهانة بشرط أن تكون دائمة خالية عن المنفعة.
وثانيها : أن من الجهَّال من إذا ساعدته الدنيا اغترَّ بها، وظنَّ أن ذلك لأجل كرامته على الله - تعالى - فبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدلَّ بها على رضا الله تعالى لأنَّ الدنيا قد تصلح مع أنَّ عاقبتها المصير إلى العذاب والإهانة، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السُّوء في لزومها له، وكونها سائقة له إلى أشدِّ العذاب.
وثالثها : قوله :﴿لِمَن نُّرِيدُ﴾ يدلُّ على أنَّه لا يحصل الفوز بالدنيا لكلِّ أحدٍ، بل كثيرٌ من الكفَّار يعرضون عن الدِّين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا، وعن الدِّين، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً الذي ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى :﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فشرط تعالى فيه ثلاثة شروطٍ "
٢٤٢
أحدها : أن يريد بعمله الآخرة أي : ثواب الآخرة، فإنه إن لم ينو ذلك، لم ينتفع بذلك العمل ؛ لقوله تعالى :﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ﴾ [النجم : ٣٧] وقوله - صلوات الله وسلامه عليه - :" إنَّما الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ ".
والثاني : قوله جلَّ ذكره :﴿وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطَّاعات، وكثير من الضُّلال يتقرَّبون بعبادة الأوثان، ولهم فيها تأويلان : أحدهما : أنهم يقولون : إله العالم أجلُّ وأعظم من أن يقدر الواحد منَّا على إظهار عبوديته، وخدمته، ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبوديَّة بعض المقربين من عباد الله، مثل أن نشتغل بعبادة الكواكب، أو ملكٍ من الملائكةِ، ثمَّ إنَّ الملك أو الكواكب يشتغلون بعبادة الله - تعالى -.
فهؤلاء يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بهذا الطريق، وهذه طريق فاسدة، فلا جرم لم ينتفع بها.
والتأويل الثاني : أنَّهم قالوا : اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء، والمراد من عبادتها أن يصير أولئك الأنبياء والأولياء شعفاءنا عند الله - تعالى -، وهذا الطريق أيضاً فاسد ؛ فلا جرم لم ينتفع بها.
وأيضاً : نقل عن الجنيد أنَّهم يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بقتل أنفسهم تارة، وبإحراق أنفسهم أخرى، وهذا الطريق أيضاص فاسد، فلا جرم لم ينتفع بها، وكذا القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بمذاهبهم الباطلة.
والشرط الثالث : قوله تعالى :﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾.
وهذا الشرط معتبرٌ ؛ لأنَّ الشرط في كون أعمال البرِّ موجبة للثواب هو الإيمان، فإذا لم يوجد، لم يحصل المشروط، ثمَّ إنه - تعالى - أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً، والعمل مبروراً.
واعلم أن الشُّكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة : اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدلُّ على كونه معظماً عند ذلك الشَّاكر، والله - تعالى - يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة، فإنَّه تعالى عالمٌ بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وإنه تعالى يثني عليهم بكلامه ؛ وإنَّه تعالى يعاملهم بمعاملة دالَّة على كونهم مطيعين عند الله - تعالى -.
وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً، كانوا مشكورين على طاعتهم من قبل الله - تعالى -.
يروى في كتب المعتزلة : أنَّ جعفر من حربٍ حضر عنده رجل من أهل السنَّة،
٢٤٣