وأحقُّ الخلق بالشفقة الأبوان ؛ لكثرة إنعامهما على الإنسان.
فقوله تعالى :﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا ااْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ إشارة إلى التَّعظيم لأمر الله تعالى، وقوله تعالى :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ إشارة إلى الشَّفقة على خلق الله.
وثالثها : أنَّ الاشتغال بشكر المنعم واجبٌ، ثمَّ المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى جلَّ ذكره لا إله إلا هو، وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك، وشكره أيضاً واجبٌ ؛ لقوله ﷺ :" مَنْ لمْ يشكُر النَّاس، لمْ يشكُر الله "، وليس لأحدٍ من الخلائق نعمةٌ على الإنسان مثل ما للوالدين، وتقريره من وجوه : أحدها : أن الولد قطعةٌ من الوالدين ؛ قال - عليه السلام - :" فَاطِمةُ بضَعةٌ منِّي يُؤذِينِي ما يُؤذيها ".
وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة، وجدهما في إيصال الخير إلى الولد أمرٌ طبيعيٌّ، واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعيٌّ أيضاً ؛ فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة، بل هي أكثر من كلِّ نعمة تصل من إنسانٍ إلى إنسانٍ.
وأيضاً : حال ما يكون الإنسان في غاية الضَّعفِ ونهاية العجز يكون جميعُ أصناف نعم الأبوين في ذلك الوقت واصلة إلى الولدِ، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه، كان موقعه عظيماً.
وأيضاً : فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض، فكان الإنعام فيه أتمَّ وأكمل، فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحدٍ من المخلوقين نعمةٌ على غيره مثل ما للوالدين على الولدِ، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق ؛ فقال تعالى :﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا ااْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين، فقال تعالى :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾.
فإن قيل : إنَّ الوالدين إنَّما طلبا تحيل اللذَّة لأنفسهما ؛ فلزم منه دخول الولد في الوجود، ودخوله في عالم الآفات والمخافات، فأيُّ إنعامٍ للأبوين على الولد.
يحكى أن بعض المنتسبين للحكمة كان يضربُ أباه، ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد، وعرَّضني للموت، والفقر، والعمى، والزَّمانة.
٢٥٠
وقيل لأبي العلاء المعرِّي : ماذا تكتب على قبرك ؟ فقال اكتبوا عليه :[الكامل] ٣٣٩٦ - هَذَا جَناهُ أبِي عَلَيْـ
يَ وما جَنَيْتُ عَلى أحَدْ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٢٤٧
٣٣٩٧ - وتَركْتُ فِيهِمْ نِعْمةَ الْـ
عدم التي سبقت نعيم العاجل
ولوْ أنَّهُمْ ولَدُوا لعَانَوا شِدَّة
تَرْمِي بِهمْ في مُوبِقاتِ الآجلِ
وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم ملَّة عليك أم والدك ؟ فقال : الأستاذ أعظم منَّة ؛ لأنَّه تحمَّل أنواع الشَّدائد عند تعليمي وأوقفني في نور العلم، وأمَّا الوالدُ فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه، فأخرجني إلى آفاتِ عالمِ الكون والفساد.
ومن الكلمات المشهورة المأثورة :" خَيْرُ الآبَاءِ من عَلَّمكَ " والجواب : هبْ أنَّه في أوَّل الأمر طلب لذة الوقاع، إلاَّ أن الاهتمام بإيصال الخيراتِ إليه، ودفع الآفاتِ من أوَّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر، أليس أنَّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهاتِ الخيرات والميرات ؟ فسقطت هذه الشبهات.
واعلم أن لفظ الآية يدلُّ على معانٍ كثيرة، كل واحدٍ منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة :﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء : ١٩]، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة.
وذكر من جملتها البرَّ بالوالدين، وذلك يدلُّ على أن هذه الطاعة من أصول الطَّاعات التي تفيد سعادة الآخرة.
ومنها أنَّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتَّوحيد، وثنَّى بطاعة الله، وثلَّث ببرِّ الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطَّاعة.
ومنها : أنه تعالى لم يقل :" وإحْسَاناً بالوَالِديْنِ "، بل قال :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، فتقديم ذكرهما يدل على شدَّة الاهتمام.
ومنها : أنه تعالى قال :" إحْسَاناً " بلفظ التنكير، والتنكير يدلُّ على التعظيم، أي : إحساناً عظيماً كاملاً ؛ لأنَّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة ؛ فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، وإن لم تحسن إليهما كذلك، فلا تحصل المكافأة ؛ لأنَّ إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداءِ، وفي الأمثال المشهورة :" إنَّ البَادِئ بالبرِّ لا يُكَافأ ".
قوله تعالى :﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ﴾ قرأ الأخوان " يَبْلغانِّ " بألف التثنية قبل نون التوكيد
٢٥١


الصفحة التالية
Icon