فصل في ظاهر الآية ظاهر الآية يقتضي أنَّه لا سبيل لحلِّ القتل إلاَّ قتلُ المظلوم، وظاهر الخبر يقتضي ضمَّ شيئين آخرين إليه، وهو الكفر بعد الإيمان، والزِّنا بعد الإحصان، ودلَّت آية أخرى على حصول سبب رابع، وهو قوله تعالى :﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا ااْ أَوْ يُصَلَّبُوا ااْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ﴾ [المائدة : ٣٣] ودلَّت آية أخرى على سبب خامسٍ، وهو الكفر الأصلي، قال الله تعالى :﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة : ٢٩].
وقال تعالى :﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [النساء : ٨٩].
واختلف الفقهاء في أشياء أخرى : منها : تاركُ الصلاة، فعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - لا يقتل، وعند الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - : يقتل.
وثانيها : اللاَّئط : فعند الشافعيِّ : يقتل، وعند بعضهم : لا يقتل.
وثالثها : السَّاحر، إذا قال : قتلتُ بسحري فلاناً، فعند أبي حنيفة : لا يقتل، وعند بعضهم : يقتل.
ورابعها : القتل بالمثقَّل عند الشافعيِّ : يوجب القصاص، وعند أبي حنيفة : لا يوجب.
وخامسها : الانتماع من أداء الزَّكاة، اختلفوا فيه في زمان أبي بكر - رضي الله عنه -.
وسادسها : إتيانُ البهيمة أوجب فيه بعضهم القتل، ولم يوجبه الباقون، وحجَّة القائلين بعدم وجوب القتل في هذه الصورة هو أنَّ هذه الآية صريحة في تحريم القتل على الإطلاق إلاَّ لسببٍ واحدٍ، وهو قتل المظلوم، ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم.
٢٧٣
وأيضاً : فالخبر المذكور يوجب حصر أسباب الحلِّ في تلك الثلاثة، ففيما عداها يجبُ البقاء على أصل الحرمة، ثم قالوا : وبهذا النصِّ قد تأكَّد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدَّم على الإطلاق، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارضٍ، وذلك المعارض : إمَّا أن يكون نصّاً متواتراً أو نصّاً من باب الآحادِ، أو قياساً، والنص المتواترُ مفقودٌ، وإلاَّ لما بقي الخلافُ.
وأما النصُّ من باب الآحادِ، فهو مرجوحٌ بالنسبة غلى هذه النصوص الكثيرة ؛ لأنَّ الظنَّ المستفاد من النصوصِ الكثيرة أعظم من الظنِّ المستفاد من خيرٍ واحدٍ.
وأما القياسُ : فلا يعارض النصَّ، فثبت بمقتضى هذا الأصل القويِّ : أنَّ الأصل في الدماءِ الحرمةُ إلاَّ في الصور المعدودة.
قوله سبحانه وتعالى :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾ فيه بحثان : البحث الأول : هذه الآية تدلُّ على أنَّه أثبت لوليِّ الدم سلطاناً.
فأمَّا بيان هذه السلطنة فيماذا، فليس في قوله :﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾ فلا ينبغي أن يسرف ذلك القاتل الظالمُ في ذلك القتل ؛ لأنَّ ذلك المقتول منصورٌ ؛ لثبوت السَّلطنة لوليه.
والطريق الثاني : أن تلك السلطنة مجملة، ثم فسِّرت بالآية والخبر.
أما الآية : فقوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة : ١٧٨] إلى قوله :﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة : ١٧٨].
وقد بينَّا على أنَّها تدل على أن الواجب تخيير الوليِّ بين القصاص والدية.
وأمَّا الخبر : فقوله - صلوات الله وسلامه عليه - يوم الفتح " مَن قُتِلَ لَهُ قَتيلٌ، فهو بِخَيْرِ النَّظرينِ : إمَّا أن يُقتلَ، وإمَّا أن يُفْدَى ".
فعلى هذا : فمعنى قوله :﴿فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾ أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص، وسلطنة استيفاء الدِّية، إن شاء، قال بعده ﴿فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾ أي أنَّ الأولى ألاَّ يقتصّ، ويكتفي بأخذ الدية أو يعفو، كقوله تعالى :﴿وَأَن تَعْفُوا ااْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة : ٢٣٧].
٢٧٤


الصفحة التالية
Icon