فصل يقال : قَفَوْتُ أثر فلانٍ أقْفُو قَفْواً، إذا تتبَّعتَ أثره، وسُمِّيت قافية الشِّعر قافية ؛ لأنَّ البيت يقفو البيت، وسمِّيت القبيلة المشهورة بالقافة ؛ لأنَّهم يتَّبعون آثار أقدام النَّاسِ، ويستدلُّون بها على أحوال الإنسان.
وقال تعالى :﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا﴾ [الحديد : ٢٧].
وسمِّي القفا قفاً ؛ لأنه مؤخر بدنِ الإنسان ووراءه، كأنه شيء يتبعه ويقفوه.
فقوله :" ولا تَقْفُ " أي : لا تتَّبعْ ما لا علم لك به، من قول أو فعلٍ، فهو نهيٌ عن الحكم مبا لا يكون معلوماً، وهذه قضية كليةٌ يندرجُ تحتها أنواعٌ كثيرةٌ، وكل واحدٍ من المفسِّرين حمله على واحدٍ من تلك الأنواع، فقيل : المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم ؛ لأنَّه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتِّباع الهوى، فقال تعالى :﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ [النجم : ٢٣].
وقال في إنكارهم البعث ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل : ٦٦].
وحكى عنهم أنَّهم قالوا :﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية : ٣٢].
وقال :﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾ [القصص : ٥٠].
وقال عزَّ وجلَّ :﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ﴾ [النحل : ١١٦].
وقال :﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ﴾ [الأنعام : ١٤٨].
وقال محمد ابن الحنفيَّة : المراد منه شهادة الزُّور.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : لا تشهد إلاَّ بما رأته عيناك، وسمعته أذناك، ووعاهُ قلبك.
وقيل : المراد النَّهيُ عن القذف، وقيل : المراد النهي عن الكذبِ.
قال قتادة : لا تقل : سمعت، ولم تسمعْ، ورأيتُ، ولم تَرَ، وعلمتُ، ولم تعلمْ.
٢٨١
وقيل : القَفْوُ : هو البهت، وأصله من القَفَا ؛ كأنه يقال : خلفه، وهو في معنى الغيبة.
واللفظ عامٌّ يتناولُ الكلَّ، فلا معنى للتقييد.
فصل في الرد على نفاة القياس احتجَّ نفاةُ القياسِ بهذه الآية، قالوا : القياسُ لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ، والظَّن مغاير للعلم، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكمٌ بغير العلم ؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
وأجيب عنه بوجوه : الأول : أن الحكم في الدِّين بمجرَّد الظنِّ جائزٌ بإجماع الأمَّة في صورٍ كثيرةٍ : منها : العمل بالفتوى عملٌ بالظنّ.
ومنها : العمل بالشهادة عملٌ بالظَّنِّ.
ومنها : الاجتهاد في القبلة عمل بالظنِّ.
ومنها : قيم المتلفات، وأروش الجنايات عملٌ بالظنِّ.
ومنها : الفصدُ، والحجامةُ، وسائر المعالجات ؛ بناءً على الظنِّ.
ومنها : كون هذه الذَّبيحةِ ذبيحة مسلمٍ مظنون.
ومنها : الحكمُ على الشَّخص المعيَّن بكونه مؤمناً مظنونٌ، ثم يبنى على هذا الظنِّ أحكام كثيرة، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما.
ومنها : الأعمال المعتبرةُ في الدنيا من الأسفار، وطلب الأرباح، والمعاملات إلى الآجالِ المخصوصة، والاعتماد على صداقةِ الأصدقاء، وعداوة الأعداء كلِّها مظنونةٌ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائزٌ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه - :" نَحْنُ نَحْكمُ بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائِر "
٢٨٢


الصفحة التالية
Icon