يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلِي
وقوله تعالى :﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِى ﴾ [الأحقاف : ١٥] أي : يجرح عراقيبها، وأصلح لي ذريتي، وردَّ هذا بأنَّ " في " لا تزاد، وما ذكر متأوَّل، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى في الأحقاف.
الثاني : أنه محذوفٌ تقديره : ولقد صرَّفنا أمثاله، ومواعظه، وقصصه، وأخباره، وأوامره.
وقال الزمخشريُّ في تقدير ذلك :" ويجوز أن يراد بـ " هَذَا القرآنِ " إبطال إضافتهم إلى الله البنات ؛ لأنه ممَّا صرفه، وكرَّر ذكره، والمعنى : ولقد صرَّفنا القول في هذا المعنى، وأوقعنا التصريف فيه، وجعلناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يريد بـ " هَذا القُرآنِ " التنزيل، ويريد : ولقد صرَّفناهُ، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل، فترك الضمير ؛ لأنَّه معلوم "، وهذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري أحسنُ ؛ لأنه مناسب لما دلَّت عليه الآية وسيقت لأجله، فقدَّر المفعول خاصًّا، وهو : إمَّا القولُ، وإمَّا المعنى، وهو الضمير الذي قدَّره في " صَرَّفناه " بخلاف تقدير غيره، فإنه جعله عامًّا.
وقيل : المعنى : لم نُنَزِّلهُ مرةً واحدة، بل نجوماً، والمعنى : أكثرنا صرف جبريل إليك، فالمفعول جبريل - عليه السلام -.
وقرأ الحسن بتخفيفِ الرَّاء، فقيل : هي بمعنى القراءةِ الأولى، وفعَل وفعَّل قد يشتركان، وقال ابن عطيَّة :" أي : صرفنا النَّاس فيه إلى الهدى ".
والصَّرْفُ في اللغة : عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة ؛ نحو : تصريف الرياح، وتصريف الأمور، هذا هو الأصل في اللغة، ثم جعل لفظ التَّصريف كناية عن التَّبيين ؛ لأنَّ من حاول بيان شيءٍ، فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر، ومن مثالٍ إلى مثالٍ آخر ؛ ليكمل الإيضاح، ويقوي البيان، فقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ أي : بيَّنَّا.
قوله :" لِيَذَّكَّرُوا " متعلق بـ " صَرَّفْنَا " وقرأ الأخوان هنا، وفي الفرقان بسكون
٢٩٣
الذَّال، وضمِّ الكاف مخففة مضارع " ذكر " من الذّكر أو الذُّكر، والباقون بفتح الذال، والكاف مشددة، والأصل : يتذكَّروا، فأدغم التاء في الذَّال لقرب المخرج وهو من الاعتبار والتَّدبُّر.
قال الواحديُّ : والتذكُّر هنا أشبه من الذِّكر ؛ لأنَّ المراد منه التدبُّر والتفكُّر، وليس المراد منه الذِّكر الذي يحصل بعد النسيان، ثم قال : وأمَّا قراءة حمزة والكسائي، ففيها وجهان : الأول : أنَّ الذكر قد جاء بمعنى التَّأمُّل والتدبُّر ؛ كقوله سبحانه جلَّ ذكره :﴿خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ﴾ [البقرة : ٦٣].
والمعنى : وافهموا ما فيه.
والثاني : أن يكون المعنى : صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ؛ لتذكروه بألسنتكم ؛ فإنَّ الذكر بألسنتكم قد يؤدِّي إلى تأثر القلب بمعناه.
فصل قال الجبائيُّ - رحمه الله تعالى - : قوله عزَّ وجلَّ :﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ﴾ يدل على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراضٍ حكميةٍ، ويدلُّ على أنَّه تعالى أراد الإيمان من الناس، سواءٌ آمنوا، أو كفروا.
قوله :﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ﴾، أي : التصريفُ، و " نُفوراً " مفعول ثانٍ وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى ما أراد الإيمان من الكفَّار ؛ لأنَّه تعالى عالمٌ بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً، فلو أراد الإيمان منهم، لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة عنه ؛ لأنَّ الحكيم، إذا أراد تحصيل أمرٍ من الأمور، وعلمَ أنَّ الفعل تلفلاميَّ يصير سبباً للعسر والتعذُّر والنفرة ؛ فإنَّه عند محاولة تحصيل ذلك المقصود يحترزُ عما يوجب النُّفرة، فلمَّا أخبر تعالى أنَّ هذا التصرُّف يزيدهم نفُوراً، علمنا أنَّه ما أراد الإيمان منهم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٢٩٢
قوله تعالى :﴿كَمَا يَقُولُونَ﴾ : الكافُ في موضع نصبٍ، وفيها وجهان : أحدهما : أنها متعلقة بما تعلَّقت به " مع " من الاستقرار، قاله الحوفيُّ.
والثاني : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي : كوناً كقولكم ؛ قاله أبو البقاء.
وقرأ ابن كثير وحفص " يقولون " بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، وكذا
٢٩٤