التسبيح، وإن الطير والوحش تسبِّح، إذا صاحتْ، فإذا سكنت، تركت التَّسبيح.
وقال إبراهيم النخعيُّ : وإن من شيءٍ جمادٍ وحيٍّ إلا يسبِّح بحمده، حتَّى صرير الباب، ونقيض السقف.
وقال مجاهدٌ : كل الأشياء تسبِّح لله، حيًّا كان أو ميتاً، أو جماداً، وتسبيحها : سبحان الله وبحمده.
قال أهلُ المعاني : تسبيحُ الحيِّ المكلَّف بالقول، كقول اللسان : سبحان الله، وتسبيح غير المكلَّف كالبهائم، ومن لا يكون حيًّا، كالجمادات ما دلَّت بلطيفِ تركيبها، وعجي هيئتها على خالقها ؛ لأنَّ التسبيح باللسان لا يحصُل إلاَّ مع الفهم، والعلم، والإدراك، والنُّطق، وكل ذلك في الجمادات محالٌ.
قالوا : فلو جوَّزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلِّماً، لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى قادراً عالماً على كونه حيًّا، وحينئذٍ : يفسد علينا باب العلم بكونه حيًّا، وذلك كفر ؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته، وتسبيحه، مع أنَّها ليست بأحياء ؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا، وذلك كفر ؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته، وتسبيحه، مع أنَّها ليست بأحياء ؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا، فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حيًّا، وذلك جهلٌ وكفر، ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ من ليس بحيٍّ لم يكن عالماً قادراً متكلِّماً.
واحتج القائلون بأنَّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلُّها تسبِّح لله تعالى بهذه الآية، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ؛ لأنَّه تعالى قال :﴿وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومةٌ لنا، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه.
فأجاب أهل المعاني بوجوه : أولها : أنَّك إذا أخذت تفاحة واحدة، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة، لا تتجزَّأ، وكلُّ واحدٍ من تلك الاجزاء دليلٌ تامٌّ مستقلٌّ على وجودِ الإله، ولكلِّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطَّبع، والطَّعم، واللَّون، و الرائحة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصِّص قادر حكيم.
إذا عرف هذا ظهر أنَّ كلَّ واحدٍ من أجزاء تلك التفاحة دليل تامٌّ على وجود الإله، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضاً دليل تامٌّ على وجود الإله،
٢٩٧