وردَّ الناس على أبي عبيدة قوله ؛ لبعده لفظاً ومعنًى.
قال ابن قتيبة :" لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التَّفسير المستكرهِ مع ما فسَّره السَّلف بالوجوهِ الواضحة ".
قال شهاب الدين : وأيضاً فإن " السَّحْر " الذي هو الرِّئة لم يضرب له فيه مثلٌ ؛ بخلاف " السِّحْر " فإنهم ضربوا له فيه المثل، فما بعد الآية من قوله ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ﴾ [الإسراء : ٤٨] لا يناسب إلا " السِّحْر " بالكسرِ.
فصل في معنى قوله :﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾.
قال المفسرون : معنى الآية ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ أي يطلبون سماعه، ﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ وأنت تقرأ القرآن، ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ﴾ يتناجون في أمرك، فبعضهم يقول : هذا مجنونٌ، وبعضهم يقول : شاعرٌ ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ﴾ يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه :﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ مطبوباً.
وقال مجاهد - رحمه الله - : مخدوعاً ؛ لأنَّ السِّحر حيلة وخديعة، وذلك لأنَّ المشركين حانوا يقولون : إنَّ محمداً ﷺ يتعلَّم من بعض النَّاس هذه الكلمات، وأولئك النَّاس يخدعونه بهذه الكلمات، فلذلك قالوا :" مَسْحُوراً " أي : مخدوعاً.
وأيضاً : كانوا يقولون : إنَّ الشيطان يتخيَّل له، فيظنُّ أنه ملكٌ، فقالوا : إنه مخدوع من قبل الشَّيطان.
وقيل : مصروفاً عن الحقِّ، يقال : ما سحرك عن كذا، اي : ما صرفك، وقيل : المسحور هو الشَّيء المفسود، يقال : طعام مسحور، إذا فسد، وأرض مسحورة، إذا أصابها من المطر أكثر ممَّا ينبغي فأفسدها.
فإن قيل : إنَّهم لم يتبعوا رسول الله ﷺ فكيف يصحُّ أن يقولوا :﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾.
فالجواب أنَّ معناه : إن اتَّبعْتُموهُ، فقد اتَّبعْتُمْ رجلاً مسحوراً.
ثم قال تعالى :﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ﴾، أي : كلُّ أحد شبَّهك بشيءٍ، فقالوا : كاهنٌ، وساحرٌ، وشاعرٌ، ومعلَّمٌ، ومجنونٌ، فضلُّوا عن الحقِّ، فلا يستطيعون سبيلاً، اي : وصولاً إلى طريق الحقِّ.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٠١
قوله تعالى :﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً﴾ الآيات.
لما تكلَّم أوَّلاً في الإلهيَّاتِ، ثمًَّ أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوَّات، ذكر في هذه الآيات شبهاتهم في إنكار المعاد، والبعث، والقيامة، وقد تقدَّم أنَّ مدار القرآن على هذه الأربعة، وهي الإلهيَّات، والنبوّات، والمعاد، والقضاء والقدر، وأيضاً فالقوم وصفوا رسول الله ﷺ بكونه مسحوراً فاسد العقل، فذكروا أن من جملة ما يدلُّ على فساد عقله : أن يدعي أنَّ الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً يعود حيًّا، كما كان.
قوله تعالى :﴿أَإِذَا كُنَّا﴾ : قد تقدم خلاف القرَّاء في مثل هذين الاستفهامين في سورة الرعد، والعامل في " إذَا " محذوفٌ [تقديره :] أنبعثُ أو أنحشر، إذا كُنَّا، دلَّ عليه " المَبْعُوثُونَ " ولا يعمل فيها " مَبعُوثُونَ " هذا ؛ لأنَّ ما بعد " إنَّ " لا يعمل فيما قبلها، وكذا ما بعد الاستفهام، لا يعمل فيما قبله، وقد اجتمعا هنا، وعلى هذا التقدير : تكون " إذَا " متمحِّضة للظرفية، ويجوز أن تكون شرطية، فيقدَّر العامل فيها جوابها، تقديره : أإذا كنَّا عظاماً ورفاتاً نبعث أو نعاد، ونحو ذلك، فهذا المحذوف جواب الشَّرط عند سيبويه، والذي انصبَّ عليه الاستفهام عند يونس.
والرُّفات : ما بولغَ في دقِّه، وتفْتِيتِه، وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيء المفتت، وقال الفراء :" هو التُّرَابُ " وهو قول مجاهدٍ ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن " تراباً وعظاماً ".
يقال : رَفَتَهُ يَرْفِتُهُ بالكسرِ [أي : كسره].
وقيل : حطاماً قال الواحدي : الرفت : كسر الشيء بيدك ؛ كما يرفت المدر والعظم البالي، يقال : رفت عظام الجَزُورِ رفتاً، إذا كسرها، ويقال للتبن : الرفت ؛ لأنَّه دقاق الزَّرْع.
قال الأخفش : رفت رفتاً، فهو مَرفُوتٌ، نحو حطم حَطْماً، فهو مَحْطُوم.
والفعال يغلب في التفريق كالرُّفات والحطامِ والعظام والدقاق والفتات، والجذاذَ والرضاض.
قوله تعالى :" خَلْقاً " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه مصدرٌ من معنى الفعل، لا من لفظه، أي : نبعثُ بعثاً جديداً.
والثاني : أنه في موضع الحال، أي : مخلوقين.
٣٠٤