جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٢٥
واحْتَنكَتْ أمَوالنَا وجلَّفَتْ وحكى سيبويه - رحمه الله - :" أحْنَكُ الشَّاتينِ "، أي : آكلهما، أي : أكثرهما [أكْلاً].
وذكر المفسرون في الاحتناك قولين : أحدهما : أنه عبارةٌ عن الأخذِ بالكليَّة، يقال : احتنك فلانٌ مال فلانٍ : إذا استقصاه، فأخذهُ الكلِّيَّة، واحتنك الجراد الزَّرع : إذا أكلهُ بالكليَّة.
والثاني : أنه من قول العرب : حنَّك الدابَّة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به.
فعلى الأوَّل معناه : لأستأصلنهم بالإغواء.
وعلى الثاني : لأقُودنَّهم إلى المعاصي، كما تقادُ الدَّابة بحبلها.
ثم قال :" إلاَّ قليلاً " وهم المعصومون الذين استثناهم الله تعالى في قوله تعالى :﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر : ٤٢].
فإن قيل : كيف ظنَّ إبليسُ اللَّعين هذا الظنَّ الصَّادق بذريَّة آدم - صلوات الله عليه - ؟.
قيل : فيه وجهان :
٣٢٦
الأول : أنه سمع الملائكة يقولون :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ [البقرة : ٣٠] فعرف ذلك.
والثاني : أنه وسوس إلى آدم - صلوات الله عليه - فلم يجدْ له عزماً، فقال : الظاهر أنَّ أولاده يكونون مثله في ضعف العزم.
وقيل : لأنه عرف أنه مركب من قوَّة بهيمية شهوانية، وقوَّة وهميَّة شيطانية، وقوة عقليَّة ملكيَّة، وقوَّة سبعيَّة غضبيَّة، وعرف أنَّ بعض تلك القوى تكون هي المستولية في أوَّل الخلقة، ثم غنَّ القوَّة العقلية إنما تكمل في ىخر الأمر، ومتى كان الأمر كذلك، كان ما ذكره إبليس لازماً.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٢٥
قوله تعالى :﴿اذْهَبْ فَمَن﴾ : تقدَّم أن الباء تدغم في الفاء في ألفاظٍ منها هذه، عند أبي عمرو، والكسائي، وحمزة في رواية خلادٍ عنه ؛ بخلاف في قوله تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـائِكَ﴾ [الحجرات : ١١].
وهذا ليس من الذَّهاب الذي هو ضدُّ المجيء، وإنما معناه : امضِ لشأنك الذي اخترته، و المقصود التخلية، وتفويض المر إليه، كقول موسى - صلوات الله عليه - :﴿فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ﴾ [طه : ٩٧] ثم قال عزَّ وجلَّ :﴿فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾.
فإن قيل : الأولى أن يقال : فإن جهنَّم جزاؤهم ؛ ليعود الضمير إلى قوله :﴿فَمَن تَبِعَكَ﴾ ؟ فالجواب من وجوهٍ : الأول : تقديره : جزاؤهم وجزاؤكم ؛ لأنه تقدَّم غائب ومخاطب في قوله :﴿فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ فغلَّب المخاطب على الغائب، فقيل : جزاؤكم.
والثاني : يجوز أن يكون الخطاب مراداً به " مَنْ " خاصة، ويكون ذلك على طريق الالتفات.
والثالث : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال :" مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيِّئةً فَعليْهِ وِزْرُهَا ووِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزْرِ ذلك العامل، فلما كان إبليس هو الأصل في كلِّ المعاصي، صار المخاطب بالوعيد هو إبليس.
قوله تعالى :" جَزَاءً " في نصبه أوجهٌ : أحدها : أنّه منصوبٌ على المصدر، الناصب له المصدر قبله، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأول.
٣٢٧
الثاني : أنه منصوب على المصدر ايضاً، لكن بمضمرٍ، أي : يجازون جزاء.
الثالث : أنه حالٌ موطئة كـ " جَاءَ زيدٌ رجُلاً صَالحاً ".
الرابع : أنه تمييزٌ، وهو غير متعقَّل.
و " مَوفُوراً " اسم مفعولٍ، من وفرته، ووفر يستعمل متعدِّياً، ومنه قول زهير :[الطويل] ٣٤٣٥ - ومَنْ يَجْعَلِ المعرُوفَ من دُونِ عِرْضهِ
يَفِرهُ ومَنْ لا يتَّقِ الشَّتمَ يُشتمِ
والآية الكريمة من هذا، ويستعمل لازماً، يقال : وفرَ المالُ يَفِرُ وفُوراً، فهو وَافِرٌ، فعلى الأول : يكون المعنى جزاء موفَّراً، وعلى الثاني : يكون المعنى جزاء وافراً مكمَّلاً يقال : وفرتهُ أفرهُ وفْراً.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٢٧
قوله تعالى :﴿وَاسْتَفْزِزْ﴾ : جملة أمرية عطفت على مثلها من قوله " اذهَبْ ".
و " من اسْتطَعْتَ " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنها موصولة في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي : استفزز الذي استطعت استفزازه منهم.
والثاني : أنها استفهامية منصوبة المحلِّ بـ " استطعت " قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ ؛ لأن " اسْتفْزِزْ " يطلبه مفعولاً به، فلا يقطع عنه، ولو جعلناه استفهاماً، لكان معلقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبيٍّ [فيعلقُ].
والاسْتِفْزازُ : الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ : استخفَّني حتى خدعني لما يريده.
قال :[الطويل] ٣٤٣٦ - يُطِيعُ سَفيهَ القَومِ إذ يَسْتفِزُّهُ
ويَعْصِي حَليماً شَيَّبتهُ الهَزاهِزُ
ومنه سمِّي ولد البقرة " فزًّا ".
قال الشاعر :[البسيط] ٣٤٣٧ - كَمَا اسْتغَاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ
خَافَ العُيونَ ولمْ يُنْظرْ بِهِ الحَشَكُ
٣٢٨