بأنَّ " أعمى " في طه من عَمَى البصر، وفي الإسراء من عمى البصيرة ؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجهل فأميل هنا، ولم يملْ هناك ؛ للفرق بين المعنيين، والسؤال باقٍ ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإمالةِ، ولو عكسَ الأمر، لكان الفارقُ قائماً.
ونقل ابن الخطيب - رحمه الله - عن أبي عليٍّ الفارسيِّ، قال : الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أنَّ المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى، وبهذا التفسير تكون هذه الكلمة تامَّة، فتقبل الإمالة، وأما في الكلمة الثانية، فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل، وبهذا التقدير : لا تكونُ تامة ؛ فلم تقبل الإمالة.
فصل قال عكرمة : جاء نفرٌ من أهل اليمن إلى ابن عبَّاس، فسأله رجلٌ عن هذه الآية، فقال : اقْرَأ ما قبلها، فقرأ ﴿رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ﴾ [الإسراء : ٦٦] إلى قوله ﴿تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء : ٧٠].
فقال ابن عباس : من كان أعمى في هذه النِّعمِ المذكورة في الآيات المتقدمة.
روى الضحاك عن ابن عباس : من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله تعالى، وعن رؤية الحقِّ، فهو في الآخرة أعمى أشدُّ عمًى ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾، أي : أخطأ طريقاً وعلى هذا ؛ فالإشارة بـ " هذه " إلى الدنيا.
وعلى هذين القولين : فالمراد من كان أعمى عن معرفة الدلائل، والنِّعمِ، فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى.
وقال الحسن : من كان في الدنيا ضالاً كافراً، فهو في الآخرة أعمى، وأضلُّ سبيلاً ؛ لأنَّه في الدنيا ؛ تقبل توبته، وفي الآخرة، لا تقبل توبته، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر، ويكون التقدير : فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين و البصر، كما قال تعالى :﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه : ١٢٤ - ١٢٦].
وقال جلَّ ذكره :﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً﴾ [الإسراء : ٩٧].
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم.
٣٤٦
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٤٥
لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه، وأتبعها بذكر درجاتِ الخلق في الآخرة، أردفه بما يجري مجرى تحذير الناس عن الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكرِ والتَّلبِيس، فقال عزَّ وجلَّ :﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ﴾.
روى عطاءٌ عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد ثقيفٍ أتوا رسول الله ﷺ وقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصالٍ، قال : وما هُنَّ ؟ قالوا : ألاَّ نَحني في الصَّلاة أيْ لا نَنْحَنِي ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وأن تُمتِّعنا باللاَّت سنة، من غير أن نعبدها، فقال النبيُّ ﷺ :" لا خَيْرَ في دينِ لا رُكوعَ فيه ولا سُجودَ، وأمّا أن تَكسِرُوا أصْنامَكُم بأيْدِيكُمْ فذلك لَكُم، وأمَّا الطَّاغيةُ يعني اللاَّت فإنَّني غير ممتِّعكُمْ بها " وفي رواية :" وحرِّم وادينا، كما حرَّمت مكَّة شَجرهَا، وطَيْرهَا، ووَحْشهَا، فأبى ذلكَ رَسُول الله ﷺ ولَمْ يُجبْهُم، فقالوا : يا رسول الله إنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمعَ العربُ أنَّك أعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرنَا، وإنّي خَشِيتُ أن تقُول العربُ : أعْطَيتَهُم ما لَمْ تُعْطِنا، فقل : الله أمَرنِي بذلكَ، فَسكتَ النبيُّ ﷺ فطمع القومُ في سُكوتهِ أنْ يُعْطِيَهُمْ، فَصاحَ عليهم عليٌّ وعمرُ - رضي الله عنهما - وقالوا : أما تَروْنَ أنَّ رسُول الله ﷺ قَدْ أمْسََ عَنِ الكلامِ ؛ كَراهِيَةً لما تَذْكرُونَه، فأنْزلَ الله تعالى هذه الآية ".
وقال سعيد بن جبيرٍ : كان النبيُّ ﷺ يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريشٌ، وقالوا : لا نَدعُكَ، حتَّى تلم بآلهتنا وتمسَّها، فحدَّث نفسه ؛ ما عليَّ إذا فعلتُ ذلك، والله يعلم أنِّي لها كارهٌ، بعد أن يدعوني، حتَّى أستلمَ الحجر، فأنزل الله هذه.
وروى الزمخشريُّ أنَّهم جاءُوا بكتابهم، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كِتَابٌ مِنْ محمَّد رسول الله إلى ثقيفٍ : لا يعشرون، ولا يحشرون، فسكت رسُول الله، ثم قالوا للكاتب : اكْتُبْ ولا يُجْبَون والكَاتبُ ينظرُ إلى رسول الله ﷺ فقامَ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وسلَّ سيفه، وقال : أسعرتم قَلْبَ نَبيِّنا يا ثقيفُ، أسْعَر الله قُلوبَكُمْ ناراً، فقالوا : لَسْنَا نُكلِّمُك، إنَّما نكلِّم محمداً، فنزلت الآية، وهذه القصَّة إنما وقعت بالمدينة ؛ فلهذا قيل : إنَّ هذه الآيات مدنيةٌ.
٣٤٧