يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب : ٣٠].
فإن قيل : قال عليه السلام :" من سن سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو عمل بما قالوه، لكان وزره مثل وزر كل واحد من أولئك الكفار، وعلى هذا التقدير فكان عقابه زائداً على الضعف.
فالجواب : إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب، وهو دليل ضعيف، ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ يعني : إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا.
فإن قيل : كان النبي ﷺ معصوماً، فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه، وما طلبوه كفر ؟.
قيل : كان ذلك خاطر قلب لم يكن عزماً، وقد عفا الله عز وجل عن حديث النفس.
والجواب الصحيح هو أن الله تعالى قال :﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ﴾.
وقد ثبته الله، فلم يركن إليهم، وهذا مثل قوله تعالى :﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ [النساء : ٨٣] وقد تفضل فلم يتبعوا.
فصل احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية، فقالوا : هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم منهم من وجوه : الأول : أن الآية دلت على أنه - عليه السلام - قرب من أن يفتري على الله الكذب، وذلك من أعظم الذنوب.
الثاني : تدلُّ على أنَّه لولا أنَّ الله - تعالى - ثبَّته وعمه ؛ لقرب من أن يركن إلى دينهم.
الثالث : لولا أنَّه سبق جرمٍ وجناية، وإلاَّ فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشَّديد.
والجواب عن الأوَّل : أنَّ " كاد " معناه المقاربة، أي : أنه قرب وقوعه في الفتنة، وهذا لا يدلُّ على الوقوع في تلك الفتنة، بل يدلُّ على عدم الوقوع ؛ كقولك :" كادَ الأميرُ أن يَضْربَ فُلاناً " لا يدلُّ على أنَّه ضربه.
والجواب عن الثاني : أنَّ " لَوْلاَ " تفيد انتفاء الشيء ؛ لثبوت غيره ؛ تقول : لولا عليٌّ، لهلك مرٌو ؛ إذ وجود عليٍّ منع من حصول الهلاك لعمرو، فكذلك ها هنا.
فقوله :﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ﴾.
معناه : أنَّه لولا حصل تثبيتُ الله لمحمد ﷺ فكان حصول ذلك التَّثْبِيت معانعاً من حصول ذلك الرُّكون.
والجواب عن الثالث : أنَّ التهديد على المعصية لا يدلُّ على الإقدام عليها ؛ لقوله
٣٥٠
- تعالى - ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة : ٤٤ - ٤٦].
وقوله تعالى :﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر : ٦٥].
وقوله :﴿وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب : ١].
فصل في ألا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى احتجَّ أهلُ السنة على أنه لا عصمة من المعاصي إلاَّ بتوفيقِ الله تعالى ؛ بقوله تعالى :﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ﴾ الآية، فبيَّن أنَّه لولا تثبيت الله تعالى له، لمال إلى طريقةِ الكفَّار، ولا شكَّ أنَّ محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كان أقوى من غيره في قوة الدِّين، وصفاء القلب واليقين، فلما بيَّن الله تعالى له أنَّ بقاءهُ معصوماً عن الكفر والضلال، لم يحصل إلاَّ بإعانة الله تعالى وتوفيقه، كان حصول هذا المعنى في حقِّ غيره أولى.
قالت المعتزلة : المراد بهذا التَّثبيتِ : الألطاف الصَّارفة عن ذلك، وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده، ومن ذكر أنَّ كونه نبيًّا من عند الله يمنع من ذلك.
والجواب : لا شكَّ أنَّ التثبيت عبارة عن فعل فعلهُ الله تعالى، يمنع الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك الوقوع في ذلك المحذور، فنقول : لم يوجد المقتضي للإقدام على ذلك العمل المحذور في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ملا كان لإيجاد هذا المنع حاجةٌ، وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أنَّ ذلك المقتضي قد حصل في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وأنَّ هذا المانع الذي فعله الله تعالى لمنع ذلك المقتضي من العمل، وهذا لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا : إنَّ القدرة مع الدَّاعي توجب الفعل، فإذا حصلت داعية أخرى معارضةٌ للداعي الأوَّل، اختلَّ المؤثِّر، فامتنع الفعل، ونحن لا نريدُ إلاَّ إثبات هذا المعنى.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٤٧