قوله تعالى :﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ الآية.
يحتمل أن يكون " مدخل " مصدراً، وأن يكون ظرف مكانٍ، وهو الظاهر، والعامة على ضمِّ الميم فيهما ؛ لسبقهما بفعل رباعيٍّ، وقرأ قتادة، وأبو حيوة، وإبراهيم بن أبي عبلة، وحمسدٌ بفتح الميم فيهما : إمَّا لأنهما [مصدران على حذف الزوائد ؛ كـ ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً﴾ [نوح : ١٧] ؛ وإمَّا لأنهما] منصوبان بمقدر موافق لهما، تقديره : فادخل
٣٦٥
مدخل، واخرج مخرج، وقد تقدَّم هذا مستوفًى في قراءةِ نافع في سورة النساء [الآية : ٣١]، وأنه قرأ كذلك في سورة الحجِّ [الآية : ٥٩].
و " مُدخلَ صِدقٍ "، و " مُخرجَ صِدقٍ " من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من إضافة الموصوف لصفته ؛ لأنه يوصف به مبالغة.
و " سلطاناً " هو المفعول الأول للجعلِ، والثاني أحدُ الجارَّين المتقدمين، والآخر متعلِّقٌ باستقراره، وقوله " نَصِيراً " يجوز أن يكون محولاً من " فاعلٍ " للمبالغة، وأن يكون بمعنى مفعول.
فصل في معنى " مُدخَلَ صِدقٍ " و " مُخْرَجَ صِدْقٍ " قد تقدَّم في قوله :﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ﴾ [الإسراء : ٧٦] قولان : أحدهما : أن يكون المراد منه سعي كفَّار مكَّة في إخراجه منها.
والثاني : المراد منه اليهود ؛ قالوا له : الأولى أن تخرج من المدينة إلى الشَّام، ثم قال :" أقم الصَّلاة " واشتغل بعبادة الله تعالى، ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهَّال، فإنَّ الله تعالى يعينك، ثمَّ عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة من أن كفَّار مكَّة أرادوا إخراجه، فأراد الله تعالى هجرته إلى المدينة، وقال له :﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾، وهو المدينة، ﴿وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾، وهو مكَّة، وهذا قول ابن عبَّاس، والحسن، وقتادة.
وعلى التفسير الثاني، وهو أنَّ المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذَّهاب إلى الشَّام، فخرج رسول الله ﷺ، ثمَّ أمر بأن يرجع إليها، فلمَّا عاد إلى المدينة، قال :" ربِّ أدخلْنِي مُدخلَ صدقٍ " وهي المدينة، " وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدقٍ " يعني : إلى مكة ؛ [بالفتح]، أي : افتحها.
وقال الضحاك :" أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ " ظاهراً على مكة بالفتح " وأخْرِدنِي مُخرجَ صِدْقٍ " من مكة، آمناً من المشركين.
وقال مجاهد : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة، والقيام بمهمات أداء شريعتك، " وأخْرِجْنِي " من الدنيا، وقد قمت بما وجب عليَّ من حقِّها " مُخرجَ صِدقٍ " أي : إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ.
٣٦٦
وعن الحسن :" أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ " الجنة، " وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ " أي : إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ من مكة.
وقيل : أدخلني في طاعتك، وأخرجني من المناهي.
وقيل : أدخلني القبر مدخل صدقٍ، وأخرجني منه مخرج صدقٍ، وقيل : أدخلني حيثُ ما أدخلتني بالصِّدق، وأخرجني بالصِّدق، أي : لا تجعلني ممَّن يدخل بوجهٍ، ويخرج بوجهٍ، فإنَّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيهاً.
ووصف الإدخال والإخراج بالصِّدقِ ؛ لما يئول غليه الدُّخولُ والخروج من النصر، والعزِّ، ودولة الدِّين، كما وصف القدم بالصِّدق ؛ فقال :﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [المائدة : ٦٧].
وقال :﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة : ٢٢].
وقال :﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة : ٣٣].
ولما سأل الله تعالى النُّصرة، بيَّن أنَّه أجاب دعاءه ؛ فقال :﴿وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ﴾.
وهو دينه وشرعه.
قوله :﴿وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾.
وهو كل ما سواه من الأديان، والشَّرائع، قاله السديُّ.
وقيل : جاء الحقُّ، أي : القرآن.
وزهق الباطل، أي : ذهب الشيطان، قاله قتادة.
وقيل : الحقُّ : عبادة الله تعالى، والباطل عبادة الأصنام.
وعن ابن مسعودٍ : أنَّ النبي ﷺ دخل مكَّة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائةٍ وستُّون صنماً، فجعل يضربها بعودٍ في يده، وجعل يقول :﴿جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾
٣٦٧
[أي : ذهب الشيطان] كان الصَّنمُ ينكبُّ على وجهه.
قوله :﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾.
أي : إنَّ الباطل، وإن كان له دولةٌ، لا يبقى، بل يزول بسرعة.
والزُّهوقُ : الذِّهاب، والاضمحلال ؛ قال :[الكامل] ٣٤٥٧ - ولقَدْ شَفَى نَفْسِي وأبْرَأ سُقمهَا
إقْدامهُ بِمزَالةٍ لمْ يَزْهقِ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٦٥
يقال : زهقت نفسي تزهقُ زهوقاً بالضمِّ، وأمَّا الزُّهوقُ، بالفتح، فمثال مبالغة ؛ كقوله :[الطويل] ٣٤٥٨ - ضَرُوبٌ بِنصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها
..........


الصفحة التالية
Icon