لظننتُ أنِّي لا أصدِّقك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسل حزيناً لما يرى من مباعدتهم.
ثم قال تعالى : قل، يا محمد :﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ أمره بتنزيهه، وتمجيده، أي : أنَّه لو أراد أن ينزل ما طلبوا، فلعل، ولكن لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر.
واعلم أنَّه تعالى قد أعطى النبي ﷺ من الآياتِ والمعجزات ما يغني عن هذا كلِّه مثل القرآن، وانشقاق القمر، وتفجير العيون من بين الأصابع، وما أشبهها، والقوم عامَّتهم كانوا متعنِّتين، لم يكن قصدهم طلب الدَّليل ؛ ليؤمنوا، فردَّ الله عليهم سؤالهم.
قوله :﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾ قرأ ابن كثير، وابن عامرٍ " قال " فعلاً ماضياً ؛ إخباراً عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - بذلك، والباقون " قُلْ " على الأمر أمراً منه تعالى لنبيه ﷺ بذلك، وهي مرسومة في مصاحف المكيين والشاميين :" قال " بألف، وفي مصاحف غيرهم " قل " بدونها، فكل وافق مصحفه.
قوله :﴿إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ يجوز أن يكون " بَشَراً " خبر " كُنْتُ " و " رَسُولاً " صفته، ويجوز أن يكون " رَسُولاً " هو الخبر، و " بَشَراً " حال مقدمة عليه.
فصل في استدلالهم بهذه الآية استدلُّوا بهذه الآية على أن المجيء على الله والذهاب محالٌ ؛ لأنَّ كلمة " سبحان " للتنزيه عمَّا لا ينبغي.
فقوله :﴿سُبْحَانَ رَبِّي﴾ : تنزيه لله تعالى عن شيءٍ لا يليقُ به، وذلك تنزيهُ الله عما نسب إليه ممَّا تقدَّم ذكره، وليس فيما تقدَّم ذكره شيء مما لا يليقُ بالله إلا قولهم : أو تأتي بالله، فدلَّ على أنَّ قوله :" سُبحانَ ربِّي " تنزيهٌ لله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في الإتيان، والمجيء ؛ فدلَّ ذلك على فساد قول المشبهة.
فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في اقتراح الأشياء ؟.
فالجواب : أنَّ القوم لم يتحكَّموا على الله، وإنما قالوا للرسول : إن كنت نبيًّا صادقاً، فاطلب من الله أن يشرِّفك بهذه المعجزات، فالقوم إنَّما تحكَّموا على الرسول ﷺ لا على الله، فلا يليقُ حمل قوله :﴿سُبْحَانَ رَبِّي﴾ على هذا المعنى، فيجب حمله على قولهم ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ﴾.
٣٨٨
فصل في تقرير هذا الجواب اعلم أنَّ تقرير هذا الجواب : أن يقال : إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنَّكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء، أو طلبتم منِّي أن أطلب من الله إظهارها على يديَّ ؛ لتدلَّ لكم على كوني رسولاً حقًّا من عند الله.
والأول باطلٌ ؛ لأنِّي بشر، والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء.
والثاني أيضاً : باطل ؛ لأنِّي قد أتيتكم بمعجزة واحدة، وهي القرآن، فطلب هذه المعجزات طلبٌ لما لا حاجة إليه، وكان طلبها يجري مجرى التعنُّت والتحكُّم، وأنا عبدٌ مأمورٌ ليس لي أن أتحكَّم على الله ؛ فسقط هذا السؤال ؛ فثبت كونُ قوله :﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ جواباً كافياً في هذا الباب.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٨٣
قوله :﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا ااْ﴾ الاية.
لمَّا حكى الله تعالى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزَّائدة، وأجاب عنها حكى شبهة أخرى وهي أنهم استبعدوا أن يبعث الله للخقل رسولاً من البشرِ، بل اعتقدوا أنَّ الله تعالى، لو أرسل رسولاً إلى الخلق، لكان ذلك الرسول من الملائكةِ، وأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بوجوهٍ : أحدها : قوله تعالى :﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا ااْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى ﴾.
وتقرير هذا الجواب : أنَّ بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق، فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله ؛ لأجل قيام المعجزات الدالة على صدقه ؛ وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة صدق ذلك الملك في ادِّعاء رسالته، فالمراد من قوله :﴿إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى ﴾ هو المعجز، [وإذا كان كذلك، فنقول : لما كان الدليل على
٣٨٩