إذا ذبل، وخفت الرَّجل بقراءته، يتخافتُ بها، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت، وقد تخافت القوم، إذا تسارُّوا بينهم.
فصل في المستحب في الدعاء واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة، والمستحبُّ التوسُّط، وهو أن يسمع نفسه ؛ كما روي عن ابن مسعود : أنه قال : لم يتخافت من يسمع أذنيه.
واعلم أن العدل هو رعاية الوسط ؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله :﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ [البقرة : ١٤٣].
ومدح المؤمنين بقوله :﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [الفرقان : ٦٧].
وأمر الله تعالى رسوله ﷺ فقال :﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء : ٢٩] فكذا ههنا : نهى عن الطَّرفين، وهما الجهر والمخافتة، وأمر بالتوسُّط بينهما، فقال :﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً﴾.
وقال بعضهم : الآية منسوخة بقوله - تعالى - :﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف : ٥٥].
وهو بعيدٌ.
واعلم أنه تعالى، لمَّا أمر بأن لا يذكر، ولا ينادى، إلا بأسمائه الحسنى، علَّم كيفيَّة التمجيد ؛ فقال :﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذُّلِّ﴾.
فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال : الأول : أنه لم يتخذ ولداً، والسَّببُ فيه وجوهٌ : أولها : أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء، فكلُّ من له ولدٌ، فهو مركبٌ من الأجزاء، والمركَّب محدثٌ، والمحدث محتاجٌ ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ.
وثانيها : أنَّ كل من له ولدٌ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده، فإذا يكن له ولدٌ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده.
وثالثها : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه، فلو كان له ولد، لكان
٤١٢
منقضياً فانياً، ومن كان كذلك، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات ؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق.
وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة : ٣٠]، وردٌّ على النصارى في قولهم ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة : ٣٠] وعلى مشركي العرب في قولهم :" المَلائِكةُ بنَاتُ الله ".
والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله :﴿وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾.
والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة : أنَّه لو كان له شريكٌ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر.
والنوع الثالث : قوله :﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذُّلِّ﴾.
والسببُ في اعتباره : أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ، لم يجب شكره ؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام.
أما إذا كان منزَّهاً عن الولد، وعن الشَّريك، وعن أن يكون له وليٌّ يلي أمرهُ، كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد والشُّكر.
قوله :﴿مَّنَ الذُّلِّ﴾ : فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنها صفة لـ " وليّ "، والتقدير : وليٌّ من أهل الذلِّ، و المراد بهم : اليهود والنصارى ؛ لأنهم أذلُّ الناس.
والثاني : أنها تبعيضية.
الثالث : أنها للتعليل، أي : من أجل الذلِّ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال :" وليٌّ من الذلِّ : ناصر من الذلِّ، ومانع له منه ؛ لاعتزازه به، أو لم يوالِ أحداً لأجل مذلَّة به ؛ ليدفعها بموالاته ".
وقد تقدَّم الفرق بين الذُّلِّ والذِّلّ في أول هذه السورة [الآية : ٢٤].
فصل في معنى قوله :﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾ معنى قوله :﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾، أي : أنَّ التمجيد يكون مقروناً بالتكبير، والمعنى : عظِّمه عن أن يكون له شريكٌ، أو وليٌّ ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - " أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى اربع : لا إله إلا الله، و الله أكبر، وسبحان الله، والحمدُ لله لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت ".

فصل


٤١٣
روى أبي بن كعب، قال : قال رسول الله ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورة بني إسرائيل، فَرَقَّ قَلبهُ عِندَ ذِكْر الوالدين أعْطِيَ في الجنَّة قِنْطَاريْنِ مِنَ الأجْرِ، والقِنطَارُ ألْفُ أوقيَّةٍ، ومِائتَا أوقيَّةٍ، كلُّ أوقيَّةٍ خيرٌ من الدُّنْيَا وما فِيهَا ".
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : قول العبد :" الله أكبرُ خيرٌ من الدنيا وما فِيهَا " وهذه الآية خاتمة التَّوراة.
وروى مطرفٌ، عن عبد الله بْنِ كعبٍ، قال :" افتُتِحَتِ التَّوراةُ بفَاتحةِ سُورةِ الأنعامِ، وخُتمَتْ بِخاتمَةِ هذه السُّورةِ ".
وروى عمرُو بنُ شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، قال : كان النبيُّ ﷺ إذا أفْصَحَ الغلام من بني عَبْدِ المطَّلبِ، عَلَّمهُ : الحَمدُ للهِ الَّذي لَمْ يتَّخذْ ولداً الآية.
وقال عبدُ الحميدِ بنُ واصلٍ : سَمعْتُ عن النبيِّ ﷺ أنَّهُ قال : مَنْ قَرَأ :﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الآية، كَتبَ الله لهُ من الأجْرِ مِثلَ الأرْض والجِبالِ ؛ لأنَّ الله تعلى يَقُولُ فيمَنْ زَعمَ أنَّ لهُ ولداً :﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً﴾ [مريم : ٩٠].
٤١٤
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٤


الصفحة التالية
Icon