وَيَتَّقْهِ} [النور : ٥٢] في سورة النور، لمَّا كسر النون إتباعاً على قاعدته ووصلها بياء.
وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة.
والإشمامُ هنا عبارة عن ضمِّ الشفتين من غير نطقٍ، ولهذا يختصُّ به البصير دون الأعمى، هكذا قرَّرهُ القراء وفيه نظر ؛ لأنَّ الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلاَّ بأن يكون إشارة إلى حركة الحرفِ الآخر المرفوع إذا وقف عليه نحو :" جاء الرجل "، وهكذا قدَّره النحويون.
وأمَّا كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصوَّر إلا أن يقفالمتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق بـ " ياء " الكلمة.
وإذا جرَّبت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك، لا ينطقُ به بالدال الساكنة مشيراً إلى ضمها إلا حتى يقف عليها، ثم يأتي بـ " ياء " في الكلمة.
فإن قلت : إنَّما آتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمةِ بأسرها.
قيل لك : فاتت الدلالة على تعيين ذلك الحرف المشار إلى حركته.
فالجواب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته وهو الدال.
وقد تقدَّم في " يوسف " أن الإشمام في ﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾ [يوسف : ١١] إذا فسَّرناه بالإشارة إلى الضمة : منهم من يفعله قبل كمال الإدغام، ومنهم من يفعله بعده، وهذا نظيره.
وتقدَّم أنَّ الإشمام يقع بإزاءِ معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقها.
و " مِنْ لدُنه " متعلق بـ " ليُنْذِرَ ".
ويجوز تعلقه بمحذوفٍ نعتاً لـ " بَأساً "، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " شديداً ".
والبأس مأخوذ من قوله :﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف : ١٦٥] و ﴿مِّن لَّدُنْهُ﴾ أي : صادراً من عنده.
فصل قال الزجاج : وفي " لدُن " لغات يقال : لَدُ، ولدُنْ، ولَدَى بمعنى واحدٍ، وهي لا تتمكن ممكن " عند " ؛ لأنَّك تقول هذا القول الصَّواب عندي، ولا يقال : صوابٌ لدني، ويقال : عندي مالٌ عظيمٌ، [والمال] غائب عنك، ولدني لما يليك لا غير.
وقرئ " ويُبشِّرُ " بالرفع على الاستئناف.
والمراد بالأجر الحسن الجنة.
قوله :﴿مَّاكِثِينَ﴾ : حالٌ : إمَّا من الضمير المجرور في " لهُم "، أو المرفوع المستتر فيه، أو من " أجراً " لتخصصه بالصفة، غلاَّ أنَّ هذا لا يجيءُ إلاَّ على رأيِ الكوفيين.
فإنهم لا يشترطون بروزَ الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللَّبسُ، ولو كان حالاً منه عند البصريِّين لقال : ماكثين هم فيه.
ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة
٤١٩
ثانية لـ " أجْراً ".
قال أبو البقاء : وقيل : هو صفة لـ " أجْراً "، والعائد الهاء في " فيه ".
ولم يتعرَّض لبروزِ الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين.
و " أبداً " منصوبٌ على الظرف بـ " مَاكثِينَ ".
فصل اعلم أنَّ المقصود من إرسالِ الرسل إنذارُ المذنبين وبشارة المطيعين، ولمَّا كان دفع الضرِّ أهمَّ عند ذوي العقول من إيصال النَّفع، لا جرم قدَّم الإنذار في اللفظ.
قال الزمخشريُّ : قرئ " ويُبشِّرُ " بالتخفيف والتَّثقيل و ﴿مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً﴾ بمعنى خالدين.
فصل قال القاضي : دلت الآية على صحَّة قوله في مسائل : أحدها : أنَّ القرىن مخلوقٌ وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزولِ، وذلك من صفاتِ المحدثات، فإنَّ القديم لا يجوز عليه التغييرُ.
والثاني : أنَّه وصفه بكونه كتاباً، و الكتب هو الجمع، وسمِّي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروفِ والكلماتِ، وما صحَّ فيه [من] التركيب والتأليف فهو محدثٌ.
الثالث : أنَّه تعالى أثبت الحمد لنفسه، على إنزالِ الكتاب، والحمد إنَّما يستحقُّ على النعمةِ، والنعمةُ محدثة [مخلوقة].
الرابع : أنَّه وصفهُ بأنه غير معوجٍّ وبأنَّه مستقيمٌ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك، فثبت أنَّه محدثٌ مخلوقٌ.
وثانيها : خلق الأعمال ؛ فإنَّ هذه الآية تدلُّ على قولنا في هذه المسألة من وجوهٍ : الأول : نفس الأمر بالحمد ؛ لأنَّه لو لم يكن للعبد فعلٌ لم ينتفع بالكتاب، إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلَّ الكتاب على أنه يجب فعله، ويترك ما دلَّ الكتاب على أنه يجب تركهُ، وهذا إنَّما كان يعقل لو كان مستقلاً بنفسه.
أمَّا إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثرٌ في اعوجاج فعله، ولم يكن لكون الكتاب " قيِّماً " أمرٌ في استقامةِ فعله كان العبدُ قادراً على الفعل مختاراً فيه.
والثاني : أنَّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض، وأنزل الباقي
٤٢٠