وقرأ الزهريُّ " ليَعْلم " بياء الغيبة، والفاعل الله تعالى، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة، ويجوز أن يكون الفاعل " أيُّ الحِزبينِ " إذا جعلناها موصولة، كما سيأتي.
وقرئ " ليُعلمَ " مبنيًّا للمفعول، والقائم مقام الفاعل، قال الزمخشريُّ :" مضمون الجملة، كما أنه مفعول العلم ".
وردَّه أبو حيان بأنه ليس مذهب البصريين، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة.
وللكوفيين في قيام الجملة مقام الفاعل أو المفعولِ الذي لم يسمَّ فاعله : الجواز مطلقاً، و التفصيل بين ما تعلق به ؛ كهذه الآية فيجوز، فالزمخشريُّ نحا نحوهم على قوليهم، وإذا جعلنا " أيُّ الحزبَينِ " موصولة، جاز أن يكون الفعل مسنداً إليه في هذه القراءة أيضاً ؛ كما جاز إسناده إليه في القراءة قبلها.
وقرئ " ليُعْلِمَ " بضم الياء، والفاعل الله تعالى، و المفعول الأول محذوف، تقديره : ليعلم الله الناس، و " أيُّ الحِزْبيْنِ " في موضع الثاني فقط، إن كانت عرفانية، وفي موضع المفعولين إن كانت يقينيَّة.
وفي هذه القراءة فائدتان : إحداهما : أنَّ على هذا التقدير : لا يلزم إثبات العلم المتجدَّد لله، بل المقصود أنَّا بعثناهم ؛ ليحصل هذا العلمُ لبعض الخالقِ.
والثانية : أنَّ على هذا لتقدير : يجب ظهور النَّصب في قوله " أيُّ " لكن لقائلٍ أن يقول الإشكال باقٍ ؛ لأنَّ ارتفاع لفظة " أيُّ " بالابتداء لا بإسناده " ليُعْلِمَ " إليه.
ولمجيبٍ بأن يجيب ؛ فيقول : لا يمتنعُ اجتماعُ عاملين على معمولٍ واحدٍ ؛ لأنَّ العوامل النحوية علاماتٌ ومعرفاتٌ، ولا يمتنع اجتماع معرفاتٍ كثيرة على شيءٍ واحد.
قوله :" أحْصَى " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه أفعلُ تفضيلٍ، وهو خبر لـ " أيُّهُم " و " أيُّهُم " استفهامية، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها، و " لِمَا لَبثُوا " حال من " أمَداً "، لأنه لو تأخَّر عنه، لكان نعتاً له، ويجوز أن تكون اللامُ على بابها من العلَّة، أي : لأجل، قاله أبو البقاء، ويجوز أن تكون زائدة، و " ما " مفعولة : إمَّا بـ " أحْصَى " على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به، وإما بإذمار فعلٍ، و " أمداً " مفول " لبثُوا " أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه أفعل عند الجمهور، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.
٤٣٣
والوجه الثاني : أن يكون " أحْصَى " فعلاً ماضياً [أي : أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم] و " أمداً " مفعوله، و " لما لبثُوا " متعلق به، أو حال من " أمداً " أو اللام فيه مزيدة، وعلى هذا : فـ طأمداً " منصوب بـ " لبثُوا " و " ما " مصدريَّة، أو بمعنى " الذي " واختار الأول - أعني كون " أحْصى " للتفضيل - الزجاج والتبريزيُّ، واختار الثاني أبو عليٍّ والزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري :" فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل ؟ قلت : ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثيِّ ليس بقياسٍ، ونحو " أعْدَى من الجَربِ " و " أفلسُ من ابنِ المُذلَّقِ " شادٌّ، و القياس على الشاذِّ في غير القرآن ممتنعٌ، فكيف به ؟ ولأنَّ " أمَداً " : إمَّا أن ينتصب بأفعل، وأفعلُ لا يعمل، وإمَّا أن ينتصب بـ " لَبِثُوا " فلا يسدُّ عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بفعلٍ مضمرٍ، كما أضمر في قوله : ٣٤٩٠ -.................
وأضْرَبَ منَّا بالسُّيُوفِ القَوانِسَا
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٩
فقد أبعدتَّ المتناول ؛ حيث أبَيْتَ أن يكون " أحْصَى " فعلاً، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره ".
وناقشه أبو حيان فقال :" أمَّا دعواه أنَّه شاذٌّ، فمذهب سيبويه خلافه، وذلك أنَّ أفعل فيه ثلاثةُ مذاهب : الجواز مطلقاً، ويعزى لسيبويه، والمنع مطلقاً، وهو مذهبُ الفارسيِّ، والتفصيل : بين أن يكون همزته للتعديةِ، فيمتنع، وبين ألاَّ تكون، فيجوز، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية، وأما قوله :" أفْعَلُ لا يَعْملُ " فليس بصحيح ؛ لأنه يعمل في التمييز، و " أمَداً " تمييزٌ لا مفعولٌ به، كما تقول : زيدٌ أقطع النَّاس سيفاً، وزيدٌ أقطع للْهَامِ سَيْفاً ".
فصل قال شهاب الدين : الذي أحوج الزمخشريَّ إلى عدمِ جعله تمييزاً، مع ظهوره في بادئ الرأي عدم صحَّة معناه، وذلك : أنَّ التمييز شرطه في هذا الباب : أن تصحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه، ويتَّصف به ؛ ألا ترى إلى مثاله في قوله : زَيْدٌ أقطعُ النَّاس سَيْفاً " كيف يصحُّ أن يسند إليه، فيقال : زيدٌ قطع سيفه، وسيفه قاطعٌ، إلى غير ذلك، وهنا ليس الإحصاء من صفة الأمدِ، ولا تصحُّ نسبته إليه، وإنَّما هو من صفات الحزبين، وهو دقيق.
وكان أبو حيان نقل عن ابي البقاء نصبه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله " أحْصَى " أفعل تفضيلٍ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماضٍ، قال أبو البقاء : في أحصى وجهان :
٤٣٤