وفرُّوا بدينهم إلى الكهف، والرَّبطُ : استعارةٌ لتقوية كلمة في ذلك المكان الدَّحض.
قوله :﴿إِذْ قَامُواْ﴾ : منصوب بـ " رَبَطْنَا ".
وفي هذا لقيام أقوالٌ : أحدها : قال مجاهدٌ : كانوا عظماء مدينتهم، فخرجوا، فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعادٍ، فقال أكبرهم : إنِّي لأجد في نفسي شيئاً، إنَّ ربِّي ربُّ السموات والأرض، فقالوا : نحن كذلك نجد في أنفسنا، فقاموا جميعاً، فقالوا :﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.
والثاني : أنَّهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس، حين عاتبهم على ترك عبادة الصَّنم، ﴿فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـاهاً﴾ فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم، حتَّى عصوا ذلك الجبَّار، وأقرُّوا بربوبيَّة الله تعالى.
الثالث : قال عطاءٌ ومقاتلٌ : إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النَّوم، وهذا بعيدٌ ؛ لأنَّ الله تعالى استأنف قصَّتهم فقال :﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم﴾.
قوله :﴿لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾.
" إذن " جواب وجزاء، أي : لقد قلنا قولاً شططاً، إن دعونا من دونه إلهاً، و " شططاً " في الأصل مصدر، يقال : شطَّ شططاً وشُطُوطاً، أي : جار وتجاوز حدَّه، ومنه : شطَّ في السَّوم، وأشطَّ، أي : جاوز القدر حكاه الزجاج وغيره، ومن قوله :" ولا تشطط " وشطَّ المنزلُ : أي بعد، [من ذلك] وشطَّت الجارية شطاطاً أي : طالت، من ذلك.

فصل قال الفراء : ولم أسمع إلا " أشطَّ يُشطُّ إشطاطاً " فالشطُّ البعد عن الحقِّ.


قال ابن عباس :" شَطَطاً " أي : جوراً.
وقال قتادة : كذباً.
وفي انتصابه ثلاثة أوجه : الأول : مذهب سيبويه النصب على الحال، من ضمير مصدر " قُلْنَا ".
الثاني : نعت لمصدر، أي : قولاً ذا شططٍ، أو هو الشَّططُ نفسه ؛ مبالغة.
الثالث : أنه مفعول بـ " قُلنا " لتضمُّنه معنى الجملة.
قوله :﴿هَـاؤُلا ااءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ﴾ : يجوز في " قَوْمنَا " أن يكون بدلاً، أو بياناً، و " اتَّخذُوا " هو خبر " هؤلاء " ويجوز أن يكون " قَوْمُنا " هو الخبر، و " اتَّخذوا " حالاً،
٤٣٧
و " اتَّخذ " يجوز أن يتعدى لواحد ؛ بمعنى " عملوا " لأنهم نحتوها بأيديهم، ويجوز أن تكون متعدية لاثنين ؛ بمعنى " صيَّروا " و " مِن دونه " هو الثاني قدِّم، و " آلهة " هو الأول، وعلى الوجه الأول يجوز في " من دونه " أن يتعلق بـ " اتَّخذُوا " وأن يتعلق بمحذوفٍ حالاً من " ىلهة " إذ لو تأخَّر، لجاز أن يكون صفة لـ " آلهة ".
قوله :" لَوْلاَ يَأتُونَ " تحضيض فيه معنى الإنكار، و " عَليْهِمْ " أي : على عبادتهم، أو على اتخاذهم، فحذف المضاف للعلم به، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة التحضيضية صفة لـ " آلهة " لفساده ؛ معنى وصناعة ؛ لأنها جملة طلبية.
فإن قلت : أضمر قولاً ؛ كقوله :[الرجز]
٣٤٩١ - جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطْ
هذا قول أصِحاب الكهف يعنون أهل بلدهم هم الذين كانوا في زمن دقيانوس، عبدوا الأصنام ﴿لَّوْلاَ يَأْتُونَ﴾ هلا يأتون " عَليْهِمْ " على عبادتهم " بسُلْطَانٍ " بحجَّة بينة واضحة، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدَّليل لا يدلُّ على عدم المدلول، وهذه الآية تدلُّ على صحَّة هذه الطريقة ؛ لأنَّه تعالى استدلَّ على عدم الشركاء والأضداد ؛ لعدمِ الدَّليل عليه، ثم قال :﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ فزعم أ، َّ له شريكاً، وولداً، يعني أنَّ الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلمٌ وافتراءٌ على الله وكذبٌ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتَّقليد.
قوله :﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ :" إذْ " منصوب بمحذوف، أي : وقال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم، وجوَّز بعضهم أن تكون " إذ " للتعليل، أي : فأووا إلى الكهف ؛ لاعتزالكم إيَّاهم، ولا يصحُّ.
قوله :" ومَا يَعبُدُونَ " يجوز في " مَا " ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أن تكون بمعنى " الذي " والعائد مقدر، أي : واعتزلتم الذي يعبدونه وهذا واضح.
و " إلاَّ الله " يجوز فيه أن يكون استثناء متصلاً، فقد روي أنَّهم كانوا يعبدون الله
٤٣٨


الصفحة التالية
Icon