المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كلِّ الأوقاتِ كقول القائل : ليس لفلانٍ عمل بالغداة والعشيِّ إلاَّ شتم الناس، وقيل : المراد صلاة الفجر والعصر.
وقيل : المراد الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النَّوم إلى اليقظة، ومن اليقظة إلى النَّوم.
قوله :﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أن مفعوله محذوف، تقديره : ولا تعد عيناك النظر.
والثاني : أ، ه ضمِّن معنى ما يتعدَّى بـ " عَنْ " قال الزمخشريُّ :" يقال : عدَّاه، أي : جاوزه فإنما عدِّي بـ " عَنْ " لتضمين " عَدا " معنى نبا وعلا في قولك : نَبتْ عنه عينه، وعلتْ عنه عينه، إذا اقتحمته، ولم تعلق به، فإن قيل : أي غرضٍ في هذا التضمين ؟ وهلاَّ قيل : ولا تعدهم عيناك، أو : ولا تعل عيناك عنهم ؟ فالجواب : الغرض منه إعطاءُ مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى [فذٍّ] ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقتحمهم عيناك متجاوزتين إلى غيرهم، ونحوه ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا ااْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء : ٢]، أي : لا تضمُّوها إليها آكلين لها ".
وردَّه أبو حيان : بأنَّ مذهب البصريين أن التضمين لا ينقاس، وإنما يصار إليه عند الضرورة، فإذا أمكن الخروج عنه، فلا يصار إليه.
وقرأ لحسن " ولا تُعدِ عَينَيْكَ " من أعدى رباعيًّا، وقرأ هو، وعيسى، والأعمش " ولا تُعدِّ " بالتشديد، من عدَّى يعدِّي مضعفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزة، وفي الثانية بالتثقيل ؛ كقول النابغة :[البسيط] ٣٥٠٨ - فَعدِّ عَمَّا تَرَى إذْ لا ارتِجاعَ لهُ
وانْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أجُدِ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٦٢
كذا قال الزمخشري، وأبو الفضل، وردَّ عليهما أبو حيان : بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزة، أو التضعيف، لتعدَّى لاثنين ؛ لأنه قبل ذلك متعد لواحد بنفسه، وقد أقرَّ الزمخشري بذلك ؛ حيث قال :" يقال : عداهُ إذا جاوزه، وإنَّما عدِّي بـ " عن " لتضمنه معنى علا، ونبا " فحينئذٍ يكون " أفْعلَ " و " فعَّل " ممَّا وافقا المجرَّد وهو اعتراضٌ حسنٌ.
فصل يقال : عدَّاه، إذا جاوزه، ومنه قولهم : عدا طورهُ، وجاءني القومُ عدا زيداً ؛ لأنَّها تفيد المباعدة، فكأنَّه تعالى نهى نبيَّه عن مباعدتهم، والمعنى : لا تزدري فقراء المؤمنين،
٤٦٩
ولا تثني عينيك عنهم ؛ لأجل مجالسته الأغنياء.
ثم قال :" تُريدُ " جملة حالية، ويجوز أن يكون فاعل " تريدُ " المخاطب، أي : تريد أنت، ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وحِّد ؛ لأنهما متلازمان يجوز أن يخبرَ عنهما خبر الواحد، ومنه قول امرئ القيس :[الهزج] ٣٥٠٩ - لِمَنْ زُحلوفَةٌ زُلُّ
بِهَا العَيْنانِ تَنهَلُّ
وقول الاخر :[الكامل] ٣٥١٠ - وكَأنَّ في العَيْنينِ حبَّ قَنْفُلٍ
أو سُنْبُلاً كُحلَْ بِهِ فانهَلَّتِ
وفيه غير ذلك، ونسبة الإرادة إلى العينين مجازٌ، وقال الزمخشري :" الجملة في موضع الحال " قال أبو حيان :" وصاحبُ الحال، إن قدِّر " عَيْناكَ " فكان يكون التركيبُ : يريدان ".
قال شهاب الدين : غفل عن القاعدة المتقدِّمة : من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يخبر عنهما إخبار الواحد، ثم قال :" وإن قدَّر الكاف، فمجيءُ الحال من المجرورِ بالإضافة نحو هذا فيه إشكالٌ ؛ لاختلاف العامل في الحال، وذي الحال، وقد أجاز ذلك بعضهم، إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزءِ، وحسَّن ذلك أنَّ المقصود هو نهيه - عليه الصلاة والسلام - وإنما جيء بقوله " عَيْناكَ " والمقصود هو ؛ لأنَّهما بهما تكونُ المراعاة للشخص والتلفُّتُ له ".
قال شهاب الدين : وقد ظهر لي وجهٌ حسنٌ، لم أر غيري ذكره : وهو أن يكون " تَعْدُ " مسنداً لضمير المخاطب ﷺ، و " عَيْناَ " بدلا من الضمير، بدل بعض من كل، و " تُرِيدُ " على وجهيها من كونها حالاً من " عَيْناكَ " أو من الضمير في " تَعْدُ " إلا أن في جعلها حالاً من الضمير في " ولا تعدُ " ضعفاً ؛ من حيث إنَّ مراعاة المبدل منه بعد ذكر البدل قليلٌ جدًّا، تقول :" الجاريةُ حسنها فاتنٌ " ولا يجوز " فَاتِنةٌ " إلاَّ قليلاً، كقوله : ٣٥١١أ - فَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّراة كأنَّهُ
مَا حَاجِبَيْهِ مُعيَّنٌ بِسوَادِ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٦٢
فقال :" مُعيَّنٌ " مراعاة للهاء في " كَأنَّه " وكان الفصيحُ أن يقول :" مُعيَّنانِ " مراعاة لحاجبيه الذي هو البدل.
فصل ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، أي تطلب مجالسة الأغنياء، والأشراف، وصحبة أهل الدنيا، ولما جاء أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين، نهاه عن الالتفات إلى قول الأغنياء والمتكبرين، فقال :﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾ يعني عيينة بن حصين، وقيل : أميَّة بن
٤٧٠


الصفحة التالية
Icon