بكونها منتسبة غلى ذلك الشيء المعيَّن بعينه، فعلى هذا : لا يمكن أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا، إلاَّ إذا تصوَّر العلم أن كون تلك الغفلة غفلة عن كذا، ولا يمكنه أن يتصوَّر تلك الغفلة غفلة عن كذا إلاَّ إذا تصوَّر كذا ؛ لأنَّ العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروطٌ بتصوُّر كلِّ واحد من المنتسبين ؛ فثبت أنَّه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة، إلاَّ عند الشعور بكذا، لكن الغفلة عن كذا ضدُّ الشعور بكذا ؛ فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلاَّ عند اجتماع الضدين، وذلك محالٌ، والموقوف على المحال محالٌ، فثبت أنَّ العبد غير قادرٍ على إيجاد الغفلة ؛ فوجب أن يكون خالقُ الغفلة وموجدها في العباد هو الله تعالى، وأما المدحُ والذمُّ فمعارضٌ بالعلم والدَّاعي، وقد تقدَّم.
وأما قوله :﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف : ٢٩] فسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.
وأما قولهم : لو كان المراد إيجاد الغفلة، لوجب ذكر الفاء، فهذا إنَّما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتِّباع الشَّهوة والهوة، كما أن الكسر من لوازمه حصول الانكسار، وليس الأمر كذلك ؛ لأنَّه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى ؛ لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله، ولا يتَّبع الهوى، بل يبقى متوقِّفاً حيراناً مدهوشاً خائفاً.
وذكر القفَّال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً : أحدها : أنه تعالى، لما صبَّ عليهم الدنيا صبًّا، وأدَّى ذلك إلى حصول الغفلة في قلوبهم، صحَّ أن يقال : إنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم، كقوله تعالى :﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِى إِلاَّ فِرَارا﴾ [نوح : ٦].
وثانيها : أن معنى ﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ أي : تركناه، فلم نسمهُ بسمةِ أهل الطَّهارة والتقوى.
وثالثها :﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ أي خلاَّه مع الشيطان، ولم يمنعه منه.
والجواب عن الأول : أنَّ فتح أبواب لذَّات الدنيا عليه، هل يؤثِّر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر ؟ فإن أثر، كان أثر إيصال اللذَّات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه، وذلك عينُ القول بأنه فعل الله، أي : فعل ما يوجب الغفلة في قلبه، وإن لم يؤثِّر في حصول الغفلة، فبطل إسناده غليه، وعلى الثاني وهو أنَّه بمعنى تركناه فهو لا يفيدُ إلاَّ ما ذكرناه.
وعن الثالث : إن كانت للتَّخلية ؛ بمعنى حصول تلك الغفلة، فهو قولنا، وإلاَّ بطل إسناد تلك الغفلة إلى الله تعالى.
٤٧٣
قوله تعالى :﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ﴾ الآية.
في تقرير النَّظم وجوهٌ : الأول : أنه تعالى، لمَّا أمر رسوله ألا يلتفت إلى قول الأغنياء، قال :﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ﴾ الآية أي : قل لهؤلاء : هذا الدِّين الحق من عند الله تعالى، فإن قبلتموه، عاد النَّفع عليكم، وإن لم تقبلوهُ، عاد الضَّرر إليكم، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى.
والثاني : أنَّ المراد أنَّ الحقَّ ما جاء من عند الله، والحقَّ الذي جاءنا من عنده أن أصير نفسي مع هؤلاء الفقراء، ولا أطردهم، ولا ألتفت إلى الرؤساء، [ولا أنظر إلى] أهل الدنيا.
والثالث : أن يكون المراد هو أنَّ الحقَّ الذي جاء من عند الله ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ وأنَّ الله تعالى لم يأذن في طرد أحدٍ ممَّن آمن وعمل صالحاً ؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار.
فإن قيل : أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهمِّ، وطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلاَّ سقوط حرمتهم، وهذا ضررٌ قليلٌ.
وأما عدم طردهم، فإنَّه يوجبُ بقاء الكفَّار على الكفر]، لكن من ترك الإيمان ؛ حذراً من مجالسة الفقراء، فإنَّ إيمانهُ ليس بإيمان، بل هو نفاقٌ ؛ فيجب على العاقل ألاَّ يلتفت إلى من هذا حاله.
الرابع : قل يا محمد للَّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : يا أيُّها الناس، من ربكم الحقُّ، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضَّلال، ليس إليَّ من ذلك شيءٌ، وقد بعثتُ إلى الفقراءِ والأغنياء ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ وهذا على طريق التهديد والوعيد، كقوله ﴿اعْمَلُواْ مَا شِئْتُم﴾ [فصلت : ٤٠] والمعنى : لست بطارد المؤمنين لهواكم، فإن شئتم، فآمنوا، وإن شئتم، فاكفروا.
قال ابن عبَّاس : معنى الآية : من شاء الله له الإيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر.
فصل قالت المعتزلة : هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد.
قال ابن الخطيب : وهذه الآية من أقوى الدَّلائلِ على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة ؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ حصول الإيمان، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر، وصريح العقل يدلُّ على أنَّ الفعل الاختياريَّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه، وبدون الاختيار.
٤٧٤