والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ، أو زمانٍ، وقال أبو البقاء :" مَصْرِفاً : أي انصرافاً، ويجوز أن يكون مكاناً ".
قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ، فإنه جعل المفعل بكسر العين مصدراً لما مضارعه يفعل بالكسر من الصحيح، وقد نصُّوا على أنَّ اسم مصدر هذا النوع مفتوح العين، واسم زمانه ومكانه مكسوراً، نحو : المَضْرَبُ والمَضْرِبُ.
وقرأ زيد بن عليٍّ " مَصْرَفاً " بفتح الراء جعله مصدراً ؛ لأنه مكسور العين في المضارع، فهو كالمضرب بمعنى الضَّرب، وليت أبا البقاء ذكر هذه القراءة ووجَّهه بما ذكره قبل.
قوله :﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ بينَّا ﴿فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾.
اعلم أن الكفَّار، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة، وذكر المثلين المتقدِّمين، ذكر بعده :﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ وهو إشارة إلى ما سبق، والتصريف يقتضي التكرير، والأمر كذلك ؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوهٍ كثيرةٍ، والكفار مع تلك الجوابات الصَّافية، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة ؛ فقال :﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾.
قوله :﴿مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ : يجوز أن تكون " مِنْ كلِّ " صفة لموصوف محذوف، وهو مفعول " صرَّفنا "، أي : صرَّفنا مثلاً من كلِّ مثلٍ، ويجوز أن تكون " مِنْ " مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين.
٥١٣
قوله :" جَدَلاً " منصوب على التمييز، وقوله :﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ أي : أكثر الأشياء التي يتأتَّى منها الجدالُ، إن فصَّلتها واحداً واحداً، يعني أنَّ الإنسان أكثر جدلاً من كلِّ شيء يجادلُ، فوضع " شيءٍ " موضع الأشياء، وهل يجوز أن يكون جدلاً منقولاً عن اسم كان ؛ إذ الأصل : وكان جدلُ الإنسان أكثر شيء ؟ فيه نظر، وكلام أبي البقاء يشعر بجوازه ؛ فإنه قال :" فيه وجهان : أحدهما : أنًَّ شيئاً ههنا في معنى فجادل، لأنَّ أفعل يضاف إلى ما هو بعضٌ له، وتمييزه بـ " جدلاً " يقتضي أن يكون الأكثر مجادلاً، وهذا من وضع العام موضع الخاص.
والثاني : أن في الكلام محذوفاً، تقديره : وكان جدل الإنسان أكثر شيءٍ، ثم ميَّزه ".
فقوله :" تقديره : وكان جدل الإنسان " يفيد أنَّ إسناد " كان " إلى الجدلِ جائز في الجملة، إلا أنه لا بدَّ من تتميم لذلك : وهو أن تتجوَّز، فتجعل للجدلِ جدلاً ؛ كقولهم :" شِعرٌ شَاعرٌ " يعني أنَّ لجدل الإنسان جدلاً هو أكثر من جدلِ سائر الأشياءِ.
وهذه الآية دالَّة على أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - جادلوهم في الدِّين حتَّى صاروا مجادلين ؛ لأنَّ المجادلة لا تحصل إلاَّ من الطرفين.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٠٧
قوله :﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا ااْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى ﴾ الآية.
تقدم إعراب نظيرها في آخر السورة قبلها.
فإن قلت : قالت المعتزلةُ : الآية دالةٌ على أنَّه لم يوجد ما يمنع عن الإقدام على الإيمانِ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول : إنه حصل المانعُ.
[فالجواب] بأن العلم بأنه لا يؤمنُ مضادٌّ لوجود الإيمان، وإذا كان ذلك العلم قائماً، كان المانعُ قائماً.
وأيضاً : قول الداعي إلى الكفر مانعٌ من حصول الإيمان.
وإذا ثبت هذا، ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة.
٥١٤


الصفحة التالية
Icon