ثم قال :﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾.
أي : انطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما، والضمير في قوله :" بينهما " إلى ماذا يعود ؟.
فقيل : لمجمع البحرين.
وقيل : بلغا الموضع الذي وقع فيه نسيانُ الحوت، وهذا الموضع الذي كان يسكنه الخضر - عليه السلام - أي : يسكن بقربه، ولأجل هذا المعنى، لمَّا رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت، صار إليه، وهو معنى حسنٌ، والمفسِّرون على القول الأوَّل.
قوله :﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ : الظاهر نسبةُ النِّسيانِ إلى موسى وفتاه، يعني نسيا تفقُّد أمره، فإنه كان علامة لهما على ما يطلبانه، وقيل : نسيَ موسى أن يأمرهُ بالإتيان به، ونسي يوشعُ أن يفكِّره بأمره، وقيل : النَّاسِي يوشع فقط، وهو على حذف مضاف، أي : نسي أحدهما ؛ كقوله :﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن : ٢٢].
قوله :" في البَحْرِ سرباً " مفعول ثانٍ لـ " اتَّخذَ " و " فِي البَحْرِ " يجوز أن يتعلق بـ " اتَّخذ " وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه محالٌ من المفعول الأول أو الثاني.
والهاء في " سبيلهُ " تعود على الحوت، وكذا المرفوع في " اتَّخذَ ".
قوله :﴿جَاوَزَا﴾ : مفعوله محذوف، أي : جاوزا الموعد، وقيل : جاوزا مجمع البحرين.
قوله :" هَذَا " إشارة إلى السَّفر الذي وقع بعد تجاوزهما الموعد، أو مجمع البحرين، و " نَصباً " هو المفعول بـ " لَلِينَا " والعامة على فتح النون والصاد، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما، وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة، كذا قال أبو الفضل الرازيُّ في " لَوامحِهِ ".
قوله :﴿أَرَأَيْتَ﴾ : تقدم الكلام عليها مشبعاً في الأنعام، وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً، وهو : أنَّ العرب أخرجتها عن معناها بالكليَّة، فقالوا : أرَأيْتكَ، وأرَيْتكَ بحذف الهمزة، إذا كانت بمعنى : أخْبِرْنِي " وإذا كانت بمعنى " أبْصَرْتَ " لم تحذف همزتها، وشذَّت أيضاً، فألزمها الخطاب على هذا المعنى، ولا يقال فيها أيضاً :" أرَانِي زيداً عمراً ما صَنعَ " ويقال على معنى " اعْلَمْ " وشذَّت أيضاً، فأخرجتها عن موضعها بالكليَّة ؛ بدليل دخول الفاء ؛ ألا ترى قوله :﴿أرَأيْتَ إذ أوينا إلى الصَّخرةِ فإني﴾ فمَا دخلت الفاء إلاَّ وقد أخرجت إلى معنى :" أمَّا " أو " تنبَّه "، والمعنى : أمَّا إذ أوينا إلى الصَّخرة، فإنِّي نسيتُ الحوت، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى " أخبرني " كما قدَّمنا، وإذا كانت بمعنى " أخبرني " فلا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه، وتلزم [الجملة] التي بعدها الاستفهام، وقد تخرج لمعنى " أمَّا " ويكون أبداً بعدها الشرط، وظروف الزمان، فقوله " فإنِّي نسيتُ "
٥٢٤
معناه : أمَّا إذ أوينا فإنِّ]، أو تنبَّه إذْ أويْنَا، وليست الفاءُ إلاَّ جواباً لـ " أرَأيْتَ " لأنَّ " إذْ " لا يجوز أن يجازى بها إلاَّ مقرونة بـ " ما " بلا خلافٍ ".
قال الزمخشري :" أرأيت " بمعنى " أخْبرنِي " فإن قلت : ما وجه التئامِ هذا الكلام، فإنَّ كلَّ واحد من " أرَأيْتَ " ومن " إذْ أويْنَا " ومن ﴿فإنِّي نسيتُ الحوت﴾ لا متعلق له.
قلت : لمَّا طلب موسى الحوت، ذكر يوشع ما رأى منه، وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، ودهش، فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك، كأنه قال : أرأيت ما دهاني، إذ أوينا إلى الصخرة، فإنّي نسيتُ الحوت، فحذف ذلك.
قال أبو حيَّان : وهذان مفقودان في تقدير الزمخشريِّ :" أرَأيْتَ بمعنى أخبرني " يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش من أنَّه لا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه، ولزومِ الاستفهام الجملة التي بعدها.
قال النوويُّ في " التهذيب " يقال : أوى زيدٌ بالقصر : إذا كان فعلاً لازماً، وآوى غيره بالمدِّ : إذا كان متعدِّياً، فمن الأول هذه الآية قوله :﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ﴾ [الكهف : ١٠].
ومن المتعدِّي قوله تعالى :﴿وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ﴾ [المؤمنون : ٥٠].
وقوله :﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾ [الضحى : ٦].
هذا هو الفصيح المشهور، ويقال في كلِّ واحدٍ بالمدِّ والقصر، لكن بالقصر في اللازمِ أفصح، والمدُّ في المتعدِّي أفصحُ وأكثر.
قوله :" ومَا أنْسَانيهُ " قرأ حفص بضم الهاء، وكذا في قوله :" عَلَيْهُ الله " في سورة الفتح [آية : ١٠]، قيل : لأنَّ الياء هنا أصلها الفتح، والهاء بعد الفتحة مضمومة، فنظر هنا إلى الأصل، وأمَّا في سورة الفتح ؛ فلأنَّ الياء عارضة ؛ إذ أصلها الألف، والهاء بعد الألف مضمومة، فنظر إلى الأصل أيضاً.
والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظ، فإنَّها بعد ياءٍ ساكنة، وقد جمع حفص في قراءته بين اللغات في هاء الكناية : فإنه ضمَّ الهاء في " أنسانيه " في غير صلة، ووصلها بياءٍ في قوله :﴿فِيهِ مُهَاناً﴾ [الفرقان : ٦٩] على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، وقرأ كأكثر القراء فيما سوى ذلك.
وقرأ الكسائي " أنسانيه " بالإمالة.
قوله :" أنْ أذكرهُ " في محلِّ نصبٍ على البدل من هاء " أنسانيه " بدل اشتمال، أي : أنساني ذكرهُ.
٥٢٥


الصفحة التالية
Icon