عشية ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـذَا نَصَباً﴾ أي : تعباً وشدَّة، وذلك أنَّه ألقى على موسى الجوع بعد مجاوزة الصَّخرة ؛ ليتذكَّر الحوت، ويرجع إلى مطلبه، فقال له فتاه وتذكَّر :﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ الهمزة في " أرَأيْتَ " همزة الاستفهام، و " رَأيْتَ " على معناه الأصليِّ، وجاء الكلام هذا على المتعارفِ بين النَّاس ؛ فإنه إذَا حدث لأحدهم أمرٌ عجيبٌ، قال لصاحبه : أرأيت ما حدث لي، كذلك هنا، كأنه قال : أرأيت ما وقع لي، إذا أوينا إلى الصَّخرة، فحذف مفعول " أرَأيْتَ " لأنَّه - أي لأنَّ قوله :" فإنِّي نسيتُ الحوت " - يدل عليه، أي : فقدته.
﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ أي أذكر لك أمر الحوت.
﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً﴾ ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل، وصيرورته حيًّا، وإلقاء نفسه في البحر على غفلةٍ منهما، ويكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطَّاق والسَّرب، وقيل : تمّ الكلام عند قوله :﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ﴾، ثم قال :" عَجَباً " أي أنَّه يعجب من رؤية تلك العجيبة، ومن نسيانه لها.
وقيل : إنَّ قوله " عَجَباً " حكايةٌ لتعجُّب موسى.
ثم قال موسى :﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ أي : نطلبه ؛ لأنَّه أمارة الظَّفر بالمطلوب، وهو لقاء الخضر.
قوله :﴿نَبْغِى﴾ : حذف نافع وأبو عمرو والكسائي ياء " نَبْغِي " وقفاً، وأثبتوها وصلاً، وابن كثير أثبتها في الحالين، والباقون حذفوها في الحالين ؛ اتِّباعاً للرسم، وكان من حقِّها الثبوتُ، وإنما حذفت تشبيهاً بالفواصل، أو لأنَّ الحذف يؤنس بالحذف، فإن " ما " موصولة حذف عائدها، وهذه بخلاف التي في يوسف [الآية : ٦٥]، فإنها ثابتة عند الجميع، كما تقدَّم.
قوله :" قصصاً " فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه مصدر في موضع الحال، أي : قاصِّين.
الثاني : أنه مصدر منصوب بفعل من لفظه مقدر، أي : يقصَّان قصصاً.
الثالث : أنه منصوبٌ بـ " ارْتدَّا " لأنه في معنى " فقَصَّا ".
قوله :﴿{فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ﴾ الآية.
قيل : كان ملكاً من الملائكة، والصحيح ما ثبت في التَّواريخ، وصحَّ عن النبي ﷺ أنَّه الخضر، واسمه بليا بن ملكان.
وقيل : كان من نسل بني إسرائيل.
٥٢٨
وقيل : كان من أبناء الملوك الذين زهدُوا في الدنيا، والخضر لقبٌ له، سمِّي بذلك ؛ لما روي عن النبي ﷺ أنه قال :" إنَّما سمِّي خضراً ؛ لأنَّه جلس على فَرْوةٍ بيْضاءَ، فإذا هِيَ تهتزُّ تَحْتَهُ خَضِراً ".
وقال مجاهد : إنما سمِّي خضراً ؛ لأنَّه كان إذا صلَّى، اخضرَّ ما حوله.
روي في الحديث أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا رأى الخضر - عليه السلام - سلَّم عليه، فقال الخضر : وأنَّى بأرضك السلام ؟ قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك ؛ لتعلِّمنِي ممَّا علِّمت رشداً.
فصل في بيان أن الخضر كان نبياً قال أكثر المفسرين : إنَّه كان نبيًّا، واحتجوا بوجوهٍ : الأول : قوله :﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا﴾ والرحمة : هي النبوة ؛ لقوله تعال ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف : ٣٢].
وقوله :﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ [القصص : ٨٦].
والمراد من هذه الرحمة النبوة، ولقائلٍ أن يقول : سلَّمنا أن النبوَّة رحمة، ولكن لا يلزمُ بكلِّ رحمةٍ نبوةٌ.
الثاني : قوله تعالى :﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾ وهذا يدل على أنه علمه لا بواسطة، ومن علَّمه الله شيئاً، لا بواسطة البشر، يجب أن يكون نبيًّا، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله، وذلك لا يدلُّ على النبوَّة.
الثالث : قول موسى - عليه السلام - :" هل أتَّبِعُك على أن تعلِّمنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً " والنبي لا يتَّبع غير النبي في التعلُّم.
وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنَّ النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيًّا، [أما في غير تلك العلوم فلا].
الرابع : أنَّ ذلك العبد أظهر الترفُّع على موسى، فقال :﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ فأما موسى، فإنه أظهر التواضع له ؛ حيث قال :﴿وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً﴾ وذلك يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان فوق موسى، ومن لا يكون نبيًّا، لا يكون فوق النبيِّ، وذلك أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنه يجوز أن يكون غير النبيِّ فوق النبي في علومٍ لا تتوقَّف نبوته عليها.
٥٢٩


الصفحة التالية
Icon