فصل روي أنه لمَّا قال موسى :﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ﴾، قال له الخضرُ : كفى بالتَّوراة علماً، وببني إسرائيل شغلاً، فقال له موسى : إنَّ الله أمرني بهذا، فحينئذ قال له :﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾، وإنَّما قال ذلك ؛ لأنَّه علم أنَّه يرى معه أموراً كثيرة منكرة، بحسب الظاهر، ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات، ثمَّ بيَّن عذره في ترك الصَّبر، فقال :﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾، أي : علماً.
واعلم أنَّ المتعلِّم على قسمين : متعلِّم ليس عنده شيءٌ من المعلوم، ولم يمارس الاستدلال، ولم يتعوَّد التقرير، و الاعتراض، ومتعلِّم حصَّل العلوم الكثيرة، ومارس الاستدلال والاعتراض، ثم إنَّه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه ؛ ليبلغ درجة الكمال، فالتعلم في حقِّ هذا القسم الثاني شاقٌّ شديدٌ ؛ لأنه إذا رأى شيئاً، أو سمع كلاماً، فربَّما يكون ذلك منكراً بحسب الظاهر، إلاَّ أنه في الحقيقة صوابٌ حقٌّ، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف الكلام والجدال، يغترُّ بظاهره، ولأجل عدم كماله، لا يقف على سرِّه وحقيقته، فيقدم على النِّزاع، والاعتراض، والمجادلة، وذلك مما يثقل سماعه على [الأستاذ] المتبحِّر، فإذا اتَّفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة، حصلت النُّفرة التامَّة والكراهة الشديدة العظيمة، وإلى هذا، أشر الخضر بقوله :﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ أي أنَّه ألف الإثبات والإبطال، والاستدلال والاعتراض.
وقوله :﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ إشارةٌ إلى كونه غير عالمٍ بالحقائقِ، وقد تقدم أنه متى حصل الأمران، [عسر] السُّكوت، وعسر التعلم، وانتهى الأمر بالآخرة إلى النُّفرة التامة، وحصول التقاطع.
قوله :" خُبْراً " : فيه وجهان : الأول : أنه تمييزٌ لقوله " تُحِطْ " وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ الأصل : مما لم يحطْ به خبرك.
والثاني : أنه مصدر لمعنى لم تحط ؛ إذ هو في قوَّة : لم يخبره خبراً، وقرأ الحسن " خُبُراً " بضمتين.
فصل في أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل قال ابن الخطيب : احتجَّ أصحابنا بقوله :﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ على أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل.
٥٣٢
وقالوا : لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل [حصول الفعل]، لكانت الاستطاعة على الصَّبْر حاصلة لموسى قبل حصول الصَّبر، فيلزم أن يكون قوله :﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ كذباً، ولمَّا بطل ذلك، علمنا أنَّ الاستطاعة لا توجد قبل الفعل.
أجاب الجبائيُّ بأنَّ المراد من هذا القول : أنَّه يثقل عليه الصَّبر ؛ لا أنه لا يستطيعه، يقال في العرف :" إنَّ فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً، ولا أن يجالسه " إذا كان يثقل عليه ذلك.
ونظيره قوله تعالى :﴿مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ [هود : ٢٠] أي كان يشقُّ عليهم الاستماع.
وأجيب بأنَّ هذا عدولٌ عن الظاهر من غير دليل، وأنه لا يجوز، ومما يؤكد استدلال الأصحاب قوله تعالى :﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ استبعد حصول الصبر على ما لا يقف الإنسان على حقيقته، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على الفعل حاصلة قبل حصول ذلك العلم، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً ؛ لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله تعالى باستبعاده، علمنا أن الاستطاعة، تحصل قبل الفعل.
قوله :﴿سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً﴾.
قال ابن الخطيب : احتج الطاعنون في عصمةِ الأنبياء بهذه الآية ؛ فقالوا إن الخضر قال لموسى : إنَّك لنْ تستطيعَ معي صبراً، وقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً، وكلُّ واحدٍ من هذين القولين مكذبٌ للآخر، فيلزمُ إلحاقُ الكذب بأحدهما، وعلى التَّقديرين، فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء - عليهم السلام -.
وأجيب بأنَّه يحمل قوله :﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ على الأكثر والأغلب، وعلى هذا، فلا يلزم ما ذكروه، وقد يجاب بجواب آخر، وهو أن موسى - عليه السلام - استثنى في جوابه، فقال :﴿سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً﴾ وعلى هذا، فلا يلزمُ ما ذكروه.
قوله :﴿وَلاَ أَعْصِي﴾ فيه أربعة أوجهٍ : أحدها : أنَّها لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها، وفيه بعدٌ.
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ ؛ عطفاً على ستجدني ؛ لأنها منصوبة المحلِّ بالقول.
وقال أبو حيَّان : ويجوز أن يكون معطوفاً على " ستجدني " فلا يكون لهُ محلٌّ من الإعراب، وهذا سهوٌ ؛ فإنَّ " سَتجِدُنِي " منصوب المحلِّ ؛ لأنه منصوب بالقول، فكذلك ما عطف عليه، ولكنَّ الشيخ رأى كلام الزمخشريِّ كذلك، ولم يتأمَّله، فتبعه في ذلك، فمن ثمَّ جاء السَّهوُ قال الزمخشري :" ولا إعْصِي " في محلِّ النصب عطفاً على " صَابِراً " أي :
٥٣٣


الصفحة التالية
Icon