ابن عباس " رَحِماً " بفتح الراءِ، وكسر الحاء، و " زَكاةً ورُحْماً " منصوبان على التمييز.
والمعنى : هذا البدل يكون [أقرب] عطفاً ورحمة بأبويه، وأشفق عليهما.
فصل في المبدل به قال الكلبيُّ : أبدلهما الله جارية تزوَّجها نبيٌّ من الأنبياء، فولدت له نبيًّا، فهدى الله على يديه أمَّة من الأمم.
قوله :﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا﴾ وكان اسمهما " أصْرَم " و " صَرِيم ".
واعلم أنه سمَّى القرية في قوله :﴿أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾ وسمَّى القرية هنا مدينة بقوله :" يَتيميْنِ في المدينةِ " فدلَّ على جواز [تسمية] إحداهما بالأخرى، ثم قال :" وكَان تحته كنزٌ لهُمَا ".
روى أبو الدرداء عن النبيِّ ﷺ قال :" كَانَ ذهباً، وقضَّة ".
وقال عكرمة : كان مالاً، ويدلُّ على ذلك أنّ المفهوم من لفظ الكنز هو المالُ.
وعن ابن عباس قال :" كَانَ لوحاً من ذهبٍ مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن بالموتِ، كيف يفرحُ، عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصبُ، عجباً لمن أيقن بالرزقِ كيف يتعب، عجباً لمن يؤمنُ بالحساب كيف يغفل، عجباً لمن أيقن بزوالِ الدُّنيا، وتقلبها بأهلها كيف يطمئنُ إليها، لا إله إلا الله، محمدُ رسول الله، وفي الخطاب الجانب الآخر : أنا الله، لا إله إلا أنا، وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشرَّ فطوبى [لمن] خلقته للخير، وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشرِّ، وأجريته على يديه ".
وهذا قول أكثر المفسِّرين وروي أيضاً مرفوعاً، قال الزجاج : والكنزُ إذا أطلق إنما ينصرفُ إلى كنز المال، ويجوز عند التَّقييد لكنز العلم، يقال : عنده كنز علم.
وهذا اللوح كان جامعاً لهما.
" وكان أبُوهمَا صالحاً " قيل : كان [اسمه] " كَاشِحٌ " وكان من الأنبياء، قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما، ولهذا قيل : إنَّ الرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال، قيل : كان بينهما وبين الأب الصَّالح سبعة آباء وهذا يدل على أنَّ صلاح الإنسان يفيد العناية بأحوال أبنائه، فإن قيل : اليتيمان، هل أحد منهما عرف حصول الكنز تحت ذلك الجدار، أو ما عرف أحد منهما ذلك ؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار، وإن كان الثاني فكيف
٥٤٨
يمكنه بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به ؟.
الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلاَّ أن وصيَّهما كان عالماً به، إما أن ذلك الوصيَّ غاب، وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السُّقوطِ، ثم قال :" فأرادَ ربُّك أن يبلغا أشدَّهُما " أي : يبلغا ويعقلا، وقيل : يدركا شدَّتهما وقوتهما.
وقيل : ثماني عشرة سنة، ويستخرجا حينئذ كنزهما " رحْمةً من ربِّك " أي : نعمة من ربِّك.
وفي نصب " رَحْمَةً " ثلاثة أوجه : أظهرها : أنه مفعول له.
الثاني : أن يكون في موضع الحال من الفاعل، أي : أراد ذلك راحماً، وهي حالٌ لازمة.
الثالث : أن ينتصب انتصاب المصدر ؛ لنَّ معنى " فاراد ربُّك أن يبلغا " معنى :" فرحمهما " ثم قال : وما فعلتهُ عن أمْرِي " أي : ما فعلته باختيارِي ورأيي، بل فعلتهُ بأمر الله وإلهامه، بأنَّ الإقدامَ على تنقيص أموالِ النَّاسِ وإراقةِ دمائهم، لا يجوز إلاَّ بالوحي والنفي القاطع، " وذلِكَ تأويلُ ما لمْ تَسْطِع عليه صبراً " أي : لم تطقْ عليه صبراً.
قوله :" تَسْطِعْ " قيل أصله " اسْتطاعَ " فحذفت تاء الافتعال، وقيل : المحذوف الطاء الأصلية، ثم أبدلت تاءُ الافتعال طاء بعد السِّين، وهذا تكلف بعيدٌ.
وقيل : السِّين مزيدة عوضاً من قلب الواو ألفاً، والأصل : أطاع، ولتحقيق القول فيه موضعٌ غير هذا، ويقال : استتاع - بتاءين، واستاع - بتاء واحدة، فهذه أربع لغاتٍ حكاها ابن السِّكيتِ.
فصل اعلم أنَّ أحكام الأنبياء - عليهم السلام - مبنيةٌ على الظواهر ؛ كما قال - عليه السلام - :" نَحْنُ نحكمُ بالظَّاهرِ والله يتولَّى السَّرائرَ " وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر
٥٤٩


الصفحة التالية
Icon