قال مكيٌّ - رحمه الله - : واختيار تركُ الألف ؛ لأنَّهم إنما عرضوا عليه : أن يعطوه عطيَّة واحدة على بنائه، لا أن يضرب ذلك عليهم كلَّ عامٍ، وقيل : الخرجُ : ما كان على الرءوس، والخراج : ما كان على الأرض، قاله قطرب يقال : أدِّ خرج رأسك، وخراج أرضك، قاله ابن الأعرابيِّ، وقيل : الخرجُ أخصُّ، والخَراجُ أعمُّ، قاله ثعلبٌ، وقيل : الخرجُ مصدر، والخراجُ : اسم لما يعطى، ثم قد يطلق على المفعول المصدر ؛ كالخلقِ ؛ بمعنى المخلوق.
ثم قال :﴿عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً﴾ أي : حاجزاً، فلا يصلون إلينا.
قوله :﴿مَا مَكَّنِّي﴾ :" ما " بمعنى " الذي " وقرأ ابن كثيرٍ :" مكَّنني " بإظهار النون، والباقون بإدغامها في نون الوقاية ؛ للتخفيف.
وهي مرسومةٌ في مصاحف غير مكَّة بنون واحدة، وفي مصاحف مكَّة بنونين، فكلٌّ وافق مصحفه.
ومعنى الكلام : ما قوَّاني عليه ربِّي خيرٌ من جعلكم، أي : ما جعلني مكيناً من المال الكثير، خيرٌ ممَّا تبذلُون لي من الخراج ؛ فلا حاجة بي إليه، كقول سليمان - عليه السلام - :﴿فَمَآ آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ﴾ [النمل : ٣٦].
قوله :﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ أي : لا أريد المال، ولكن أعينوني بأيديكم، وقوَّتكم ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾.
والرَّدْم : هو السدُّ، يقال : ردمت الباب، أي : سددتُّه، وردمتُ الثوب : رقعته ؛ لأنه يسدُّ موضع الخرق بالرَّقع، والرَّدم أكثر من السدِّ ؛ من قولهم : ثوبٌ مردم، أي : وضعت عليه رقاعٌ.
قالوا : وما تلك القوة ؟.
قال : فعلةٌ وصنَّاعٌ يحسنون البناء والعمل، والآلة.
قالوا : وما تلك الآلة ؟.
قال :﴿آتُونِي﴾ : قرأ أبو بكرٍ " ايتُونِي " بهمزة وصلٍ ؛ من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة ؛ بخلاف عنه في الثاني، ووافقه حمزة على الثاني، من غير خلافٍ عنه، والباقون بهمزة القطع فيهما.
فـ " زُبرَ " على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض، أي : جيئُوني بزُبرِ
٥٦٥
الحديد، وفي قارءة قطعها على المفعول الثاني ؛ لأنه يتعدَّى بالهمزة إلى اثنين، وعلى قراءة أبي بكرٍ يحتاج إلى كسر التنوين من " رَدْماً " لالتقاءِ الساكنين ؛ لنَّ همزة الوصل، تسقط درجاً، فيقرأ له بكسر التنوين، وبعده همزة ساكنة هي فاءُ الكلمة، وإذا ابتدأت بكلمتي " ائتُونِي " في قراءته، وقراءة حمزة، تبدأ بهمزة مكسورة للوصلِ، ثم ياءٍ صريحة، هي بدلٌ من همزة فاء الكلمة، وفي الدَّرج تسقط همزة الوصل، فتعود الهمزة ؛ لزوالِ موجب إبدالها.
والباقون يبتدئون، ويصلون بهمزة مفتوحة ؛ لأنَّها همزة قطعٍ، ويتركون تنوين " رَدْماً " على حاله من السكون، وهذا كله ظاهر لأهل النحو، خفيٌّ على القراء.
والزُّبَرُ : جمع زُبْرَة، كغُرفَةٍ وغُرَفٍ.
و " زُبَرَ الحَديدِ " قطعه.
قال الخليل : الزُّبرة من الحديد : القطعة الضخمة.
وقرأ الحسن بضمِّ الباء.
قوله :" سَاوَى " هذه قراءة الجمهور، وقتادة " سوَّى " بالتضعيف، وعاصم في رواية طسُوِّيَ " مبنيًّا للمفعول.
وفيه إضمارٌ، أي : فأتوهُ بها، فوضع تلك الزُّبرَ بعضها على بعض ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى ﴾ أي سدت ما بين الجبلين إلى أعلاهما.
قوله :" الصَّدفَيْنِ " قرأ أبو بكرٍ بضم الصاد، وسكون الدَّال، وابن كثيرٍ، وأبو عمرو، وابن عامر بضمهما، والباقون بفتحهما، وهذه لغاتٌ قرئ بها في السَّبع، وأبو جعفرٍ، وشيبة، وحميد بالفتح والإسكان، والماجشونُ بالفتح والضمِّ، وعاصم في رواية بالعكس.
والصَّدفانِ : ناحيتا الجبلين، وقيل : أن يتقابل جبلان، وبينهما طريقٌ، والناحيتان صدفان ؛ لتقابلهما، وتصادفهما، من صادفت الرجل، أي : لاقيته وقابلته، وقال أبو عبيد :" الصَّدفُ : كل بناءٍ مرتفعٍ، وقيل : ليس بمعروفٍ، والفتحُ لغة تميمٍ، والضمُّ لغة حميرٍ ".
فصل في بناء السد لما أتوهُ بزبر الحديد، وضع بعضها على بعض ؛ حتى ساوتْ، وسدَّت ما بين الجبلينِ، ووضع المنافخ عليها، و الحطب، حتَّى إذا صارت كالنَّار، صبَّ النُّحاس المذاب على الحديدِ المحمَّى، فالتصق بعضه ببعض، فصار جبلاً صَلْداً.
٥٦٦


الصفحة التالية
Icon