وقرأ ابن مسعود، وابن عبَّاس " مِداداً " كالأول، ونصبه على التَّمييز ايضاً عند أبي البقاء، وقال غيره - كأبي الفضل الرازيِّ - : إنه منصوب على المصدر، بمعنى الإمداد ؛ نحو :﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً﴾ [نوح : ١٧] قال : والمعنى : ولو أمددناهُ بمثله إمداداً.
فصل في معنى الآية المعنى : ولو كان الخلائقُ بكتبون، والبَحْرُ يمدُّهم، لنفد ما في البحر، ولم تنفدْ كلماتُ ربِّي ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ﴾ أي بمثل ماء البحر في كثرته.
قوله :﴿مََدداً﴾ نظيره قوله تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان : ٢٧].
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّها صريحةٌ في إثباتِ كلماتٍ كثيرة لله تعالى.
قال ابن الخطيب : وأصحابنا حملوا الكلماتِ على متعلِّقات علم الله تعالى.
قال الجبائيُّ : وأيضاً قوله :﴿قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ يدلُّ على أنَّ كلمات الله تعالى، قد تنفدُ في الجملة، وما ثبت عدمهُ، امتنع قدمهُ.
وأيضاً قال :﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾.
وهذا يدلُّ على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه، والذي يجيءُ به يكون محدثاً، والذي يكون المحدثُ كلامهُ فهو أيضاً محْدَثٌ.
فالجوابُ : بأنَّ المراد به الألفاظ الدَّالَّة على تعلُّقات تلك الصِّفاتِ الأزليَّة.
ولمَّا بيَّن تعالى تمام كلامه أمر محمَّداً ﷺ بأن يسلك طريقة التَّواضع، فقال :﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾.
٥٧٨
أي : لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلاَّ في أنَّ الله تعالى، أوحى إليّ أنَّه لا إله غلاَّ هو الواحد الأحد.
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : علَّم الله - عزَّ وجلَّ - رسوله ﷺ التواضع، فأمره أن يُقرَّ، فيقول : أنا آدميٌّ مثلكم إلاَّ أنِّي خُصِصْتُ بالوحي.
قوله :﴿أَنَّمَآ إِلَـهُكُمْ إله وَاحِدٌ﴾ وهو يدلُّ على مطلوبين : أحدهما : أن كلمة " أنَّما " تفيد الحصر.
والثاني : كون الإله واحداً.
قوله :﴿أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ﴾ :" أنَّ " هذه مصدرية، وإن كانت مكفوفة بـ " ما " وهذا المصدر فائمٌ مقام الفاعل ؛ كأنَّه قيل : إنَّما يوحى إليَّ التوحيد.
قوله :﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ﴾.
الرَّجاء : هو ظنُّ المنافع الواصلة، والخوفُ : ظنُّ المضارِّ الواصلة إليه، فالرَّجاءُ هو الأملُ.
وقيل : معنى " يَرْجُو لقاءَ ربِّه " أي : يخاف المصير إليه، فالرجاء يكون بمعنى الخوف، والمل جميعاً ؛ قال الشاعر :[الطويل] ٣٥٧٦ - فَلاَ كُلُّ مَا تَرجُو مِنَ الخَيْرِ كَائِنٌ
ولا كَلُّ مَا تَرْجُو من الشَّرِ واقِعُ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٧٥
فجمع بين المعنيين، وأهل السُّنة حملوا لقاء الربِّ على رؤيته.
والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله.
قوله تعالى :﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً﴾.
قرأ العامة :" ولا يُشْرِكْ " بالياء من تحتُ، عطف نهي على أمرٍ، ورُويَ عن أبي عمرو " ولا تُشْرِكْ " بالتاءِ من فوق ؛ خطاباً على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ثم التفت في قوله " بِعبادَةِ ربِّهِ " إلى الأول، ولو جيء على الالتفات الثاني، لقيل :" ربِّك " والباء سببيةٌ، أي : بسبب.
وقيل : بمعنى " في ".
فصل في ورود لفظ الشرك في " القرآن الكريم " قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ الشِّرْك " في القرآن بإزاء معنيين : الأول : بمعنى الشِّرك في العمل ؛ كهذه الآية.
الثاني : بمعنى العَدْل ؛ قال تعالى :﴿وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ [النساء : ٣٦].
أي : ولا تعدلوا به شيئاً.
٥٧٩


الصفحة التالية
Icon