قوله :﴿يا زَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ﴾.
اختلفُوا في المنادي، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى ؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى، ويسأله بقوله :﴿رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾، وبقوله :﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ وبقوله :" فهب لي "، وبقوله بعده :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى، وإلاّ لفسد [المعنى و] النَّظْم، وقيل : هذا النداءُ من الملكِ ؛ لقوله :﴿فَنَادَتْهُ الْمَلا اائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾ [آل عمران : ٣٩].
وأيضاً : فإنه لمَّا قال :﴿عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم : ٨، ٩].
وهذا لا يجوزُ أن يكونَ كلام الله ؛ فزجب أن يكون كلام الملكِ.
ويمكنُ أن يجاب بأنه يحتملُ أنَّه يحصل النداءان : نداءُ الله تعالى، ونداءُ الملائكة.
ويمكنُ أن يكون قوله :﴿قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ﴾ من كلام الله تعالى، كما سيأتي ببيانه - إن شاء الله تعالى -.
[في] الكلام اختصار، تقديره : استجاب الله دعاءهُ، فقال :﴿يا زَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ﴾ : بولدٍ، ويقال : زكريَّا " بالمد والقصر "، ويقال : زكرَى أيضاً، نقله ابن كثيرٍ.
فإن قيل : كان دعاؤهُ بإذنٍ، فما معنى البشارة ؟ وإن كان بغير إذنٍ ؛ فلماذا أقدم عليه ؟.
فالجوابُ : يجوز أن يسأل بغير إذن، ويحتمل أنَّه أذن له فيه، ولم يعلمْ وقته، فبُشِّر به.
قوله :" يَحْيَى " : فيه قولان : أحدهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ، لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهرُ، ومنعهُ من الصَّرف ؛ للعلميَّة والعجمةِ، وقيل : بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ، كما سمَّوا بـ " يَعْمُرَ " و " يعيشَ " و " يَمُوتَ " وهو يموت بنُ المُزرَّع.
والجملة من قوله :" اسْمُهُ يَحْيى " في محلِّ جرِّ صفة لـ " غُلام " وكذلك " لم نجعلْ " و " سَمِيًّا " كقوله :" رَضيًّا " إعراباً وتصريفاً، لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين : أن الاسم من السموِّ، ولو كان من الوسم، لقيل : وسيماً.
فصل قال ابن عباسٍ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، وعكرمةُ، وقتادةُ : إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ، وعطاء : لم نجعل له شبهاً ومثلاً ؛ لقوله تعالى :﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم : ٦٥] أي : مثلاً.
والمعنى : أنه لم يكن له مثلٌ ؛ لأنَّهُ لم يعصِ، ولم يهُمَّ بمعصية قط ؛ كأنَّه جواب لقوله ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾ فقيل له : إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ، لم نجْعل له شبيهاً في الدِّين، ومنْ كان كذلك، كان في غايةِ الرضا.
١٦
وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله ؛ كآدَمَ، ونوحٍ، وإبراهيم، وموسى، [وعيسى] ؛ وذلك باطلٌ.
وقيل : لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء ؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً.
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحة، عن ابن عبَّاس : لم تَلدِ العواقرُ مثلهُ ولداً.
وقيل : لأنَّ كُلَّ الناس، إنما يُسمُّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود، وأما يحيى فإنَّ الله سمَّاه قبل دخوله في الوجود، فكان ذلك من خواصِّه.
وقيل : لأنَّه ولدُ شيخٍ، وعجوزٍ عاقرٍ.
فصل في سبب تسميته بيحيى واختلفُوا في سبب تسميته بيحيى، فعن ابن عبَّاس : لأنَّ الله أحيا به عقر أمه، ويرد على هذا قصَّة إبراهيم، وزوجته، قالت :﴿يا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود : ٧٢] فينبغي أن يكون اسمُ ولدهم يحيى.
وعن قتادة : لأنَّ الله تعالى أحيا قلبهُ بالإيمانِ والطَّاعة، والله تعالى سمَّى المطيعَ حيًّا، والعاصِيَ ميِّتاً ؛ بقوله :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام : ١٢٢].
وقال :﴿إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال : ٢٤].
وقيل : لأنَّ الله تعالى أحياه بالطَّاعة ؛ حتى لم يعص، ولم يهُمَّ بمعصيةٍ.
قال رسول الله ﷺ " ما مِنْ أحدٍ إلاَّ وقد عَصَى، أو هَمَّ إلاَّ يحيى بنُ زكريَّا، فإنَّه لَمْ يهُمَّ ولَمْ يَعْملهَا " وفي هذا نظر ؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى النبياء كلهم والأولياء بـ " يحيى ".
وقال ابن القاسم بن حبيب : لأنه استشهد، والشهداء أحياء عند ربهم، قال تعالى :﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران : ١٦٩] وفي ذلك نظر ؛ لأنه كان يلزم منه أن يُسَمَّى الشهداءُ كلُّهم بيَحْيَى.
وقال عمرو بنُ المقدسيِّ : أوحى الله تعالى، إلى إبراهيم - عليه السلام - أنه قُلْ
١٧


الصفحة التالية
Icon