كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك، والأولى أولى ؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى، ولا معهود إلا التوراة.
وقوله ﴿يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ﴾ يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك، فحذف ذكره ؛ لدلالة الكلام عليه.
قوله :" بقُوَّة " حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي : ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوَّة ؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ ؛ لأن ذلك معلوم لكلَّ أحد، فيجب حمله على معنى يفيد المدح، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به، والإحجام عن المنهيِّ عنه.
قوله :﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾.
قال ابن عبَّاس : الحكم : النُّبوة " صَبِيًّا " ؛ وهوابن ثلاث سنين وقيل : الحكمُ فهم الكتاب، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ.
وقيل : هوالعَقْل، وهو قولُ مُعَمَّر.
وروي أنه قال : ما للَّعبِ خُلِقْنا.
والأوَّل أولى ؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه، وأوحى إليه، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وهما صبيَّانِ، لا كما بعض موسى ومحمَّداً - عليهما الصلاة والسلام - وقد بلغا الأشُدَّ.
فإن قيل : كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا.
فالجوابُ : هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ، أو لا يمنع منه، فإن منع منه، فقد سدَّ باب النبوات ؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ، وإن لم يمنع منه، فقد زال هذا الاستبعادُ ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر، وانفلاق البحر، و " صبيًّا " : حال من " هاء " آتيناه.
قوله " وحَنَاناً " : يجوز أن يكون مفعولاً به، نسقاً على " الحُكْمَ " أي : وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً.
والحنانُ : الرحمةُ واللّينُ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب :[المتقارب] ٣٥٨٣ أ - تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ
فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦
٢٤
قال : وأكثر استعماله مُثَنَّى ؛ كقولهم : حَنَانَيْكَ، وقوله : ٣٥٨٣ ب -.........................
حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ
[وجوَّز] فيه أبو البقاء أن يكون مصدراً، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء ؛ نحو : سَقْياً ورَعْياً، فنصبه بإضمار فعلٍ [كأخواته]، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر ؛ نحو :﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف : ١٨] و ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأعراف : ٤٦] في أحد الوجهين، وأنشد سيبويه :[الطويل] ٣٥٨٤ - وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا
اذُو نسبٍ أمْ أنْتَ بالحَيِّ عارفُ
وقيل لله تعالى : حنَّّانٌ، كما يقال له " رَحِيمٌ " قال الزمخشريُّ :" وذلك على سبيل الاستعارةِ ".
فصل في المراد بـ " حَنَاناً " اعلم أن الحنان : أصله من الحنينن، وهو الارتياحُ، والجزع للفراق كما يقال : حنينُ النَّاقة، وهو صوتها، إذا اشتاقت إلى ولدها، ذكره الخليل.
وفي الحديث : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان يُصلِّي إلى جذع في المسجد، فلمَّا اتَّخذ المنبر، وتحوَّل إليه، حنَّت تلك الخشبةُ، حتَّى سُمِعَ حنينُها، وهذا هو الأصل، ثُمَّ يقال : تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ، إذا [تعطَّف] عليه ورحمهُ.
واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان، فأجازه بعضهم، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم، ومنهم من أباه ؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة.
قالوا : ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى.
وإذا عرف هذا، فنقولُ : في الحنانِ ها هنا وجهانِ : الأول : أن نجعله صفةً لله تعالى.
والثاني : أن نجعله صفةُ لـ " يحيى "، فإن جعلناه صفة لله تعالى، فيكونُ التقديرُ : وآتيناهُ الحكم حناناً، أي : رحمةً منَّا.
ثم هاهنا احتمالات :
٢٥