تعالى :﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ [آل عمران : ٧٨] إلى أن قال :" هنالك دعا زكريا ربه قال : ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء "، والمعنى أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خرق العادة في حق مريم، دمع في حق نفسه، فدعا ربه، وصرح في " آل عمران " بأن المنادي هوالملائكة، بقوله :﴿فَنَادَتْهُ الْمَلا اائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ [آل عمران : ٣٩]، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله :" يا زكريا إنما نبشرك " هو الله تعالى، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما.
وقال في آل عمران ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران : ٤٠] فذكر أولاً كبر نفسه، ثم عقر المرأة وهاهنا قال :﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً﴾ وجوابه : أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب.
وقال في " آل عمران " :﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ﴾ [آل عمران : ٤٠] وقال هاهنا :﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً﴾ وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته.
وقال في آل عمران :﴿آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر﴾ [آل عمران : ٤١].
وقال هاهنا ﴿ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾.
وجوابه : أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ.
والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦
قوله تعالى :﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ القصة.
٣٠
اعلم أن الله تعالى إنَّما قدَّم قصَّة يحيى - عليه الصلاة والسلام - على قصَّة عيسى - عليه الصلاة والسلام - لأنَّ الولد أعني : لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقربُ إلى مناهج العاداتِ من خلق الولد من الأب ألبتَّة، وأحسنُ طُرُق التعليم والتفهيم الترقِّي من الأقرب فالأقرب، وإلى الأصعب فالأصعب.
قوله :﴿إِذِ انتَبَذَتْ﴾ : في " إذ " أوجهٌ : أحدها : أنَّها منصوبةٌ بـ " اذْكُر " على أنَّها خرجت على الظرفية ؛ إن يستحيلُ أن تكون باقيةً على [مُضِيِّها]، والعاملُ فيها ما هو نصٌّ في الاستقبال.
الثاني : أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم، تقديره : واذكر خبر مريم، أو نبأها ؛ إذا انتبذت، فـ " إذْ " منصوبٌ بذلك الخبر، أو النبأ.
والثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره : وبيَّن، أي : الله تعالى، فهو كلامٌ آخرُ، وهذا كما قال سيبويه في قوله :﴿انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ﴾ [النساء : ١٧١] وهو في الظرف أقوى، وإن كان مفعولاً به.
والرابع : أن يكون منصوباً من " مريمَ " بدلُ اشتمال، قال الزمخشريُّ :" لأنَّ الأحيان مشتملةٌ على ما فيها، وفيه : أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ؛ لوقوع هذه القصَّةِ العجيبةِ فيه ".
قال أبو البقاء - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجه - :" وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ الزمان إذا لم يكن حالاً من الجثَّة، ولا خبراً عنها، ولا صفة لها لم يكن بدلاً منها " انتهى.
وفيه نظرٌ ؛ لأنه لا يلزمُ من عدم صحَّةِ ما ذكر عدمُ صحَّة البدلية ؛ ألا ترى نحو " " سُلِبَ زيدٌ ثوبُهُ " لا يصحُّ جعله عن " زَيْد " ولا حالاً منه، ولا وصفاً له، ومع ذلك، فهو بدل اشتمالٍ.
السادس : أنَّ " إذ " بمعنى " أن " المصدرية ؛ كقولك :" لا أكْرِمُكَ إذ لم تُكْرِمْنِي " أي : لأنَّك لا تُكْرِمُني، فعلى هذا يحسنُ بدلُ الاشتمال، أي : واذكُرْ مريم انتباذهَا، ذكره أبو البقاء.
وهو في الضعف غايةٌ.
و " مكاناً " : يجوزُ ان يكون ظرفاً، وهو الظاهرُ وأن يكون مفعولاً به على معنى : إذ أتتْ مكاناً.
قوله :﴿انتَبَذَتْ﴾ الانتباذُ : افتعالٌ من النَّبْذ، وهو الطَّرْح، والإلقاء، ونُبْذَة : بضمِّ النون، وفتحها أي : ناحيةٌ، وهذا إذا جلس قريباً منك ؛
٣١


الصفحة التالية
Icon