شاهدناه بالأمْسِ، أم لا، ومن أنكر الصَّانع المختار، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب، وتشكُّلات الفلك، لزمه [تجويزُ] أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور.
وعن الثاني : أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ - عليه السلام - له أجزاءٌ أصليَّةٌ، وأجزاءٌ فاضلةٌ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا ؛ فحينئذ : يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا، فإذا جعلناهُ روحانيًّا، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم، وأخرى بالهيكل الصَّغير.
وعن الثالث : أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع.
قوله :﴿قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَـانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾.
أي : إن كان يرجى منك أن تتقي الله، فإنِّي عائذةٌ به منك ؛ لأنَّها علمتْ أن الاستعاذة لا تؤثِّرُ في التُّقى، فهو كقول القائل : إن كنت مُسْلماً، فلا تظلمني، أي : ينبغي أن تكُون تقواك مانعاً لك من الفُجُور.
كقوله تعالى :﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة : ٢٧٨].
أي : أنَّ شرط الإيمان يُوجب هذا ؛ لا أنَّ الله تعالى يُخْشَى في حالٍ دون حالٍ.
وقيل : كان في ذلك الزَّمانِ إنسانٌ فاجرٌ يتبعُ النِّساء، اسمه تقيٌّ، فظنَّت مريمُ انَّ ذلك الشخص المشاهد هُو ذاك، والأول أصحُّ.
قوله :﴿إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ جوابه محذوفٌ، أو متقدِّم.
قوله تعالى :﴿لاًّهَبَ﴾ : قرأ نافعٌ، وأبو عمرو " ليَهَبَ " بالياء والباقون " لأهَبَ " بالهمزة، فالأولى : الظاهرُ فيها أنَّ الضمير للرَّبِّ، أي : ليهبَ الرَّبُّ، وقيل : الأصلُ : لأهَبَ، بالهمز، وإنما قلبتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً ؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ، فتتفِقُ القراءتان، وفيه بعدٌ، وأمَّا الثانية، فالضميرُ للمتكلِّم، والمراد به الملكُ، وأسنده لنفسه ؛ لأنه سببٌ فيه ويؤيده : أن في بعض المصاحف :" أمرني أن أهب لك " ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى، ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف.
قوله تعالى :﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾.
فصل لما علم جبريلُ - صلوات الله عليه - خوفها، قال :﴿إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ﴾ ليزول
٣٤


الصفحة التالية
Icon