فيه الوجهان : من كونه متعلَّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على انه حالٌ، والثاني أوضحُ.
والقراءة الثانية : تكونُ فيها " مَنْ " موصولةً، والظرفُ صلتها، والمرادُ بالموصول : إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.
وقرأ زئرٌّ، وعلقمةُ :" فَخَاطَبَهَا " مكان " فَنَادَاها ".
فصل في اختلافهم في المنادي قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ : إنَّ المنادي هو عيسى - صلوات الله عليه - وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ، وقتادةُ، والضحاكُ، وجماعةٌ : إنَّه جبريل - صلوات الله عليه - وكانت مريمُ على أكمة [وجبريل] وراء الأكمةِ تحتها.
وقال ابن عيينة، وعاصمٌ : المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ : الأول : أن قوله :﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ﴾ بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى - صلوات الله عليه - فوجب حملُ اللفظ عليه، وأما قراءة كسر الميم، فلا تقتضي كون المنادي " جبريل " صلواتُ الله عليه.
الثاني : أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ.
الثالث : ان قوله " فَنَدَاهَا " فعلٌ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل، وعيسى - صلوات الله عليهما -، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ ؛ لقوله عزَّ وجلَّ :﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ﴾ والضمير عائدٌ إلى المسيح، فكان حمله عيله أولى.
الرابع : أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - لو لم يكُن كلَّمها، لما علمتْ أنه ينطقُ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام.
فصل في معنى الآية على القولين من قال : المُنادِي : هو عيسى، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أنطفه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها، وإزالةً للوحشة عنها ؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشَرها به جبريل - صلوات الله عليه - من عُلُوِّ شأن ذلك الولد.
٤٣
ومن قال : المنادي هو جبريلُ - صلوات الله عليه - قال : إنه أرسل إليها ؛ ليناديها بهذه الكلمات ؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر ؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة.
قوله :" ألاَّ تَحْزَنِي " يجوز في " أنْ " أن تكون مفسرةً ؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول، و " لا " على هذا : ناهيةٌ، حذف النون للجزم ؛ وأن تكون الناصبة، و " لا " حينئذٍ نافيةٌ، وحذفُ النُّون للنَّصْب، ومحلُّ " أنْ " إمَّا نصب، أو جرٌّ ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ، أي : فَنَادَاهَا بكذا، والضميرُ في " تحتها " : إمَّا لمريم - صلوات الله عليها - وإمَّا للنَّخلة، والأول أولى ؛ لتوافق الضميرين.
قوله تعالى :[ " سَرِيًّا " ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل، و " تَحْتك " مفعولٌ ثان ؛ لأنها بمعنى صيَّر " ويجوز أن تكون بمعنى " خلق " فتكون " تَحْتَكِ " لغواً.
والسَّرِيُّ : فيه قولان : أحدهما : إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر، من " سَرُوَ يَسْرُو " كـ " شَرُفَ، يَشْرَفُ " فهو سريٌّ، وأصله سَرِيوٌ ؛ فأعلَّ سيِّدٍ، فلامهُ واوٌ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم - صلوات الله عيله -، ويجمعُ " سريٌّ " على " سراة " بفتح السين، وسُرَواء ؛ كظرفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جمعه " أسْرِيَاء " كغَنِيِّ، وأغنياء، وقيل : السَّرِيُّ : من " سَرَوْتُ الثَّوبَ " أي : نزعتهُ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس، أي : نزعتهُ ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه ؛ بخلاف المُدَّثِّر، والمُتزمِّل، قاله الراغب.
والثاني : أنه النَّهْر الصغير، ويناسبه " فكُلِي واشْرَبِي " واستقاقه من " سَرَى، يَسْرِي " لأن الماء يَسْري فيه، فلامه عهلىىهذا ياء ؛ وأنشدوا للبيدٍ :[الرجز] ٣٥٨٨ - فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا
مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٠

فصل قال الحسن، وابن زيدٍ : السَّريُّ هو عيسى، والسَّريُّ : هو النَّبيلُ الجليلُ.


يقال : فلانٌ من سرواتِ قومه، أي : من أشرافهم، وروي أن الحسن رجع عنه.
وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ - رضي الله عنه - :﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾.
فقال : إن كان لسربًّا، وإن كان لكريماً، فقال له حميدٌ : يا أبا سعيد، إنما هو
٤٤


الصفحة التالية
Icon