قوله تعالى :﴿ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ : يجوز أن يكون " عِيسَى " خبراً لـ " ذلك " ويجوز أن يكون بدلاً، أو عطف بيان، و " قَوْلُ الحقِّ " خبره، ويجوز أن يكون " قَوْلُ الحقِّ " خبر مبتدأ مضمرْ، أي : هو قولُ، و " ابْنُ مَرْيَم " يجوز أن يكُونَ نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً، أو خبراً ثانياً.
وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، وابنُ عامر " قَوْلَ الحقِّ " بالنَّصب، والباقون بالرفع، فالرفع على ما تقدَّم، قال الزمخشري - رحمه الله - :" وارتفاعه على أنَّه خبرٌ، بعد خبرٍ، أو بدلٌ ".
قال أبو حيَّان :" وهذا الذي ذكرُهُ لا يكُونُ إلاَّ على المجازِ في قولِ : وهو أن يراد به كلمةٌ اللهِ، لأنَّ اللفظ لا يكُونُ الذَّات ".
والنَّصْبُ : يجوزُ فيه أن يكون مصدراً مؤكَّداً لمضمُون الجملة ؛ كقولك :" هُوَ عَبْدُ الله الحقَّ، لا الباطِلَ " أي : أقولُ قول الحقِّ، فالحقُّ الصِّدقُ، وهو من إضافةِ الموصوف إلى صفته، أي : القول الحقَّ ؛ كقوله :﴿وَعْدَ الصِّدْقِ﴾ [الأحقاف : ١٦] أي : الوعد الصِّدق، ويجوز أن يكون منصوباً على المَدْحِ، إن أريد بالحقِّ الباري تعالى، و " الَّذِي " نعتٌ للقول، إن أريد به عيسى، وسُمِّي قولاً كما سُمّي كلمةً، لأنه عنها نشأ.
وذلك أنَّ الحق هو اسمُ الله تعالى، فلا فرق بين أن نقول : عيسى هو كلمة الله، وبين أن نقول : عيسى قولُ الحقِّ.
وقيل : هو منصوبٌ بإضمار " أعْنِي " وقيل : هو منصوبٌ على الحالِ من " عيسَى " ويؤيِّد هذا ما نُقِلَ عن الكسائيَّ في توجيهِ الرفعِ : أنه صفةٌ لعيسى.
وقرأ الأعمشُ " قالُ " برفع اللاَّم، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً، وقرأ الحسن " قُولُ " بضم القاف، ورفع اللام وكذلك في الأنعام ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ [الأنعام : ٧٣]، وهي مصادر لِ
٦٢
" قالَ " يقالُ يَقُولُ قَوْلاً وقُولاً ؛ كالرَّهْبِ، والرُّهْب، وقال أبو البقاء :" والقَالُ : اسمٌ للمصدر ؛ مثلُ : القِيلِ، وحُكِيَ " قُولُ الحقِّ " بضمّ القاف ؛ مثل " الرُّوحِ " وهي لغةٌ فيه ".
قال شهاب الدين : الظاهرُ أنَّ هذه مصادرُ كلُّها، ليس بعضها اسماً للمصدر، كما تقدَّم تقريره في الرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْبِ.
وقرأ طلحةُ والأعمشُ " قالَ الحقُّ " جعل " " قَالَ " فعلاً ماضياً، و " الحَقُّ " فاعلٌ، والمرادُ به الباري تعالى، أي : قَالَ الهُ الحَقُّ : إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قوله " الَّذِي فيهِ يَمْتُرُونَ " خبراً لمبتدأ محذوف.
وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب - كرم الله وجهه - والسلميُّ، وداودُ بنُ أبي هندٍ، ونافعٌ، والكسائيُّ في رواية عنهما [ " تَمْتَرُونَ " بتاء] الخطاب، والباقون بياءِ الغيبة، وتَمْتَرُون : تَفْتَعِلُون : إمَّا من المريةِ، وهي الشَّكُّ، وإمَّا من المراء، وهو الجدالُ.
وتقدَّم الكلامُ على نصب " فَيَكُونَ ".
فصل فيما تشير إليه " ذلك " " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى ما تقدَّم.
قال الزَّجَّّاج - رحمه الله -، أي : ذلك الذي قال :﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم : ٣٠] عيسى ابن مريم إشارةٌ إلى أنَّه ولدُ هذه المرأة، لا أنَّه ابنُ الله [كما زعمت النصارى].
وقوله :﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾، أي : يختلفوُن، وأما امتراؤهُم في عيسى، فقائلٌ يقُولُ : هو ابنُ الله، وقائلٌ يقولُ : هو الله، وقائل يقُولُ : هو ساحرٌ كاذبٌ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آل عمران.
ورُوِيَ أن عيسى - صلوات الله عليه - لمَّا رفع، حضر أربعةٌ من [أكابر] علمائهم، فقيل للأوَّل : ما تُقولُ في عيسى ؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض، خلق، وأحيى، ثم صعد إلى السَّماء، فتبعهُ على ذلك خلقٌ، وهم اليَعْقُوبيَّةُ، وقيل للثاني : ما تقوُلُ ؟ قال : هو ابنُ الله، فتابعهُ على ذلك ناسٌ، وهم النسطورية، [وقيل للثالث : ما تقول ؟ قال : هو غله، والله إله، فتابعه على ذلك أناس، وهم الاسرائيلية]، وقيل للرابع : ما تقولُ.
فقال : عبدُ الله ورسولهُ، وهو المؤمنُ المُسْلم، وقال : أما تعلمُونَ أنَّ عيسى كان يطعمُ، ونيام، وأنَّ الله تعالى لا يجُوزُ ذلك عليه، فخصمهم.
قوله تعالى :﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ نفى عن نفسه الولد، أي : ما كان من نعته اتخاذ الولد.
٦٣