قوله تعالى :﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ﴾.
قيل : المرادُ النَّصارى، سُمُّوا أحزاباً ؛ لأنهم تحزَّبُوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النَّسْطُوريَّة، والملكانيَّة [واليعقوبيَّة] وقيل : المراد بالأحزاب الكفَّار بحيثُ يدخلُ فيهم اليهودُ، والنصارى، والكفَّار الذين كانوا في زمان محمَّد - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا هو الظاهرُ ؛ لأنَّه تخصيصٌ فيه، ويريِّدهُ قوله تعالى :﴿فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾.
قوله :﴿مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ :" مَشْهَد " مفعل : إمَّا من الشَّهادة، وإمَّا من الشُّهود، وهو الحضورُ، و " مَشْهَدا " هنا : يجوز أن يراد به الزمانُ، أو المكان، أو المصدر : فإذا كان من الشهادة، والمرادُ به الزمانُ، فتقديرهُ : من وقتٍ شهادة، وإن أريد به المكانُ، فتقديره : من مكانِ شهادةِ يومٍ، وإن أريد المصدرُ، فتقديره : من شهادة ذلك اليومِ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، والملائكة ُ، والأنبياءُ، وإذا كان من الشهود فيه، وهو الموقفُ، أو من وقت الشُّهود، وإذا كان مصدراً بحاليته المتقدمتين، فتكونُ إضافتهُ إلى الظرف من باب الاتِّساع ؛ كقوله ﴿مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة : ٤].
ويجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن يجعل اليوم شاهداً عليهم : إمَّا حقيقة، وإمَّا مجازاً.
ووصف ذلك المشهد بأنَّه عظيمٌ ؛ لأنَّه لا شيء أعظم ممَّا يشاهدُ ذلك اليوم من أهواله.
٦٧
قوله :﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ : هذا لفظ أمرٍ، ومعناه : التعجُّب، وأصحُّ الأعاريب فيه، كما تقرَّر في علم النَّحو : أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ، والباءُ زائدة، وزيادتها لازمةٌ ؛ إصلاحاً للفظ ؛ لأنَّ " أفْعِلْ " أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ ؛ كقوله :[الطويل] ٣٦٠٦ - تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا
فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٧
أي : بأنْ تسربل، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ، ولا ضمير في " أفْعِلْ " ولنا قولٌ ثانٍ : أن الفاعل مضمرٌ، والمراد به المتكلِّمُ ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ.
ولنا قولٌ ثالثٌ : أن الفاعل ضمير المصدرِ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقدير : أحسن، يا حُسْنُ، بزيدٍ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية، فإنَّ تقديره : وأبْصِرْ بهم، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو.
فصل في التعجب قالوا : التعجُّب استعظام الشيء، مع الجهل ؛ بسبب عظمه، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله.
قال الفرَّاء : قال سفيانُ : قرأتُ عن شريحٍ :﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ﴾ [الصافات : ١٢] فقال : إنَّ الله لا يعجبُ من شيء، إنما يعجبُ من لا يعلم، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ - رضي الله عنه - فقال : إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمهن وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ﴾.
ومعناه : أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ، لو صدر مثله عن الخلق، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا، فللتعجُّب صيغتان : إحداهما : ما أفعلهُ، والثانيةُ أفعل به.
كقوله تعالى :﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ والنحويُّون ذكروا له تأويلان : الأول : قالوا : أكْرِمْ بزيدٍ، أصل " أكرم زيدٌ " أيك صار ذا كرمٍ، كـ " أغَدَّ البَعِيرُ " أي : صار ذا غُدَّة، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر، ومعناه الخبرُ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر ؛ كقوله سبحانه وتعالى :
٦٨