قوله تعالى :﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ جملتان حاليتان، وفيهما قولان : أحدهما : أنهما حالان من مفعول " أنذِرْهُم " [أي : أنذرهُم على هذه الحالِ، وما بعدها، وعلى الأول يكون قوله " وأنْذِرْهُم " ] اعتراضاً.
والمعنى : وهم في غفلةٍ عمَّا يفعلُ بهم في الآخرة ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ولا يصدقون بذلك اليومِ.
قوله تعالى :﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ أي : نُميتُ سُكَّان الأرض، ونُهلِكُهم جميعاً، ويبقى الرَّبُّ وحده، فيرثُهُم ﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾، فنجزيهم بأعمالهم.
[وقرأ العامَّةُ " يُرْجَعُون " بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول، والسُّلمي، وابن أبي إسحاق، وعيسى مبنيًّا للفاعل، والأعرج بالتاء من فوقُ مبنيًّا للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكون التفاتاً، وألا يكون].
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٧
قوله تعالى :﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾ اعلم أنَّ منكرِي التوحيد الذين اثْبَتُوا معبُوداً سوى الله تعالى فريقان : منهم : من أثبت معبُوداً غير الله تعالى حيًّا، عاقلاً، فاهماً، وهم النصارى.
ومنهم : من أثبت معبُوداً غير الله، جماداً ليس بحيّ ولا عاقلٍ، وهم عبدةُ الأوثان.
والفريقان، وإن اشتركا في الضَّلال، إلاَّ أنَّ ضلال عبدة الأوثان أعظم، فلمّا بيَّن الله تعالى ضلال الفريق الأوَّل، تكلَّم في ضلال الفريق الثاني، وهم عبدةُ الأوثان ؛ فقال :﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ﴾ والواو في قوله :﴿وَاذْكُرْ﴾ عطف على قوله ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ [مريم : ٢] كأنَّه لمَّا انتهت قصَّةُ زكريَّا ويحيى، وعيسى - صلوات الله عليهم - قال : قد
٧١
ذكرتُ حال زكريَّا، فتذكر حال إبراهيم - صلواتُ الله عليه - وإنَّما أمره بالذِّكر لأنَّه - صلوات الله عليه - ما كان هُو، ولا قومُه، ولا أهل بلده مشتغلين بالتَّعليم، ومطالعةِ الكتب، فإذا أخبر عن هذه القصَّة، كما كانت من غير زيادةٍ، ولا نقصانٍ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب، ومُعْجِزاً [قاهراً] دالاَّ على نُبُوَّته، وإنَّما ذكر الاعتبار بقصَّة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لوجوه : الأول : أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - كان أبا العرب، وكانُوا مقرّين بعُلُوِّ شانه، وطهارةِ دينه على ما قال تعالى ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج : ٧٨]، وقال تعالى :﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة : ١٣٠] فكأنه تعالى قال للعرب : إنَّ كنتم مقلِّدين لآبائكم على قولكم ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف : ٢٣] فأشرفُ آبائكم وأعلاهُم قدراً هو إبراهيم - صلوات الله عليه - فقلِّدوه في ترك عبادةِ الأوثان، وإن كُنتم [مستدلين]، فانظروا في هذه الدَّلائل التي ذكرها إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لتعرفُوا فساد عبادةِ الأوثان، وبالجملةُ : فاتَّبِعُوا إبراهيم، إمَّا تقليداً، أو استدلالاً.
الثاني : أنَّ كثيراً من الكُفَّار في زمان رسُول الله - صلوات الله عليه وسلامه - كانوا يقولون : نتركُ دين آبائنا، وأجدادنا ؟ فذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - و[بيَّن] أنه ترك دين أبيه، وأبطل قوله بالدليل، ورجَّح متابعة الدَّليل على متابعة أبيه.
الثالث : أنَّ كثيراً من الكُفَّار كانُوا يتمسَّكُون بالتقليد، [وينكِرُون] الاستدلال ؛ كما حكى الله تعالى عنهم ﴿قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء : ٥٣] فحكى الله عن إبراهيم التَّمَسُّكَ بطريقة الاستدلال ؛ تنبيهاً للكُفَّار على سُقُوط طريقتهم، ثُمَّ قال تعالى في صفة الصِّدق، القائم عليه، يقال : رجلٌ خميرٌ، وسكِّيرٌ للمولعِ بهذه الأفعال.
وقيل : هو الذي يكون كثير التصديق بالحقِّ ؛ حتَّى يصير مشهُوراً به، والأول أولى ؛ لأنَِّ المصدِّق بالشيء لا يوصفُ بكونه صديقاً إلاَّ إذا كان صادقاً في ذلك التَّصديق، فيعودُ الأمْرُ إلى الأوّل.
فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـائِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ [الحديد : ١٩] فالجوابُ : المؤمنون بالله [ورسله] صادقُون في ذلك التَّصديق.
واعلم أن النبي ﷺ يجب أن يكون صادقاً في كُلِّ ما أخبر ؛ لأنَّ الله تعالى صدَّقه، ومُصدَّق الله صادقٌ ؛ فلزم من هذا كونُ الرَّسُول صادقاً فيما يقوله، ولأنَّ الرُّسُل شهداءُ الله
٧٢