وهذه التخلية وإن لم يكن فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون بأن لا يقبوا منهم، ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا ااْ أَنفُسَكُمْ﴾ قال ابن الخطيب : وهذا لا يمكن حمله على ظاهره، فإنَّ قوله : الشياطين لو أرسلهم الله - تعالى - إلى الكفار " لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين.
قلنا : الله - تعالى - ما أرسل الشياطين إلى الكفار " بل أرسلهم عليهم، والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه، فأين هذا من الإرسال إليهم.
وقوله : ضلال الكافر من قبل الله - تعالى -، فأي تأثير للشياطين فيه.
قلنا : لِمَ لا يجوز أن سماع الشياطين إياه تلك الوسوسة بوجب في قلبه الضلال بشرط سلامة فهم السامع، لأن كلام الشياطين " من خلق الله - تعالى - فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان، وإلى الله - تعالى - من هذين الوجهين.
وقوله : لِمَ لا يجوز أن يكن الإرسال التخلية.
قلنا : كما خلَّى بين الشياطين والكفرة " فقد خلَّى بينهم وبين الأنبياء، ثم إنه - تعالى - خص الكافر بأنه أرسل الشياطين عليه، فلا بد من فائدة زائدة ههنا.
ولأن قوله " تؤزُّهُمْ أزًّا " أي : تحركهم تحريكاً شديداً، فالغرض من ذلك الإرسال موجب أن يكون ذلك الأزُّ مراداً لله - تعالى - إذ يحصل المقصود منه.
قوله :" أزًّا " مصدر مؤكد.
والأزُّ، والأزيزُ، والاستفزاز.
قال الزمخشري : أخوات وهو التهيج وشدة الإزعاج، أي : تغريهم على المعاصي، وتهيجهم لها بالوساوس.
قال ابن عباس :" تَؤزُّهُمْ أزًّا " أي : تزعجهم في المعاصي إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية.
١٤٢
والأزُّ أيضاً : شدة الصوت، ومنه : أزَّ المِرْجَلُ أزًّا وأزيزاً، أي : غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت، وفي الحديث " فكَان له أزيزٌ " أي للجذع حين فارقه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾ أي : لا تعجل بطلب عقوبتهم، يقال : عجلت عيله بكذا إذا استعجلت منه " إنَّا نعدُّ لهُمْ عدًّا ".
قال الكلبي : يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام.
وقيل : الأنفاس التي يتنفّسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجِّل لعذابهم.
وقيل : نَعُدُّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها.
وقيل : نَعُدُّ الأوقات، أي : الوقت الأجل المعين " لكل أحد " الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان.
قوله :" يَوْمَ نَحشُرُ " منصوب بـ " سَيَكْفُرون "، أو بـ " يَكونُونَ " عليْهِمْ ضدًّا " أو بـ " نَعُد " لأن " نَعُدُّ " تضمن معنى المجازاة، أو بقوله :" لا يَمْلِكُونَ " الذي بعده، أو بمضمر وهو " اذكُرْ " أو " احْذَرْ ".
وقيل : هو معمول لجواب سؤال مقدر كأنه قيل :" متى يكون ذلك ؟ فقيل " : يكون يوم نحشر.
وقيل : تقديره : يوم نحشر ونسوق : نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف.
قوله :" وفداً " نصب على الحال، وكذا " ورْداً ".
١٤٣
والوَفْدُ : الجماعة الوافدون، يقال : وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً ووفوداً وفَادَةً، أي : قدم على سبيل التكرمة، فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالضيف.
وقال أبو البقاء : وفد جمع وافد مثل راكب ورَكْب، وصاحب وصَحْب.
وهذا الذي قاله ليس مذهب سيبويه، لأن فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه.
وأجازه الأخفش.
فأمَّا رَكْب وصَحْب فاسما جمع لا جمع بدليل تصغيرها على ألفاظها، قال :
٣٦٢٥ - أخْْشَى رجَيْلاً وَرُكَيْباً عَاديَا
فإن قيل : لعل أبا البقاء أراد الجمع اللغوي.
فالجواب : أنه قال بعد قوله هذا : والوِرْد اسم لجمع وارد.
فدل على أنه قصد الجمع صناعة المقابل لاسم الجمع.
والوِرْد اسم للجماعة العطاش الواردين للماء، وهو أيضاً في الأصل مصدر أطلق على الأشخاص، يقال : وَرَد الماء يردُه وِرْداً وورُوداً، قال الشاعر : ٣٦٢٦ - رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمًّا
كَدريَّةٍ أعْجَبْهَا بَرْدَ الْمَا
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٤١
وقال أبو البقاء : هو اسم لجمع وارد، " وقيل : هو بمعنى وارد " وقيل : هو محذوف من وراد، وهو بعيد.
يعني أنه يجوز أن يكون صفة على فَعْل.
وقرأ الحسن والجحدري " يُحْشَرُ المتَّقُونَ " " ويُسَاقُُ المُجْرِمُون " على ما لم يسم فاعله.
١٤٤


الصفحة التالية
Icon