فصل قال ابن عباس وكعب : فَزِعَت السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكةُ، واستعرت جهنم حين قالوا : لله ولدٌ، ثم نفى الله - تعالى - عن نفسه فقال :" وما يَنْبَغِي للرَّحمنِ أن يتَّخذَ ولداً " أي : ما يليق به " اتِّخاذُ الولد "، لأنة ذلك محال ؛ أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها، وأما التبني، فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد، ولا شبيه لله - تعالى -، ولأن اتخاذ الولد إنَّما يكون لأغراض إما لسرور، أو استعانةٍ، أو ذكرٍ جميلٍ، وكلُّ ذلك لا يصح في الله - تعالى -.
قوله :﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.
يجوز في " مَنْ " أن تكون نكرة موصوفة، وصفتها الجار بعدها، ولم يذكر أبو البقاء غير ذلك، وكذا الزمخشري إلا أن ظاهر عبارته تقتضي أنه لا يجوز غير ذلك، فإنه قال :" مَنْ " موصوفة فإنها وقعت بعد " كُل " " نكرة أشبهت وقوعها بعد " رُبَّ " في قوله :
٣٦٣٤ - ربَّ مَنْ أنْضِجَتْ غَيْظاً صَدْرَهُ
انتهى ".
ويجوز أن تكون موصولة.
قال أبو حيان : ما كُل الذي في السموات، و " كلُّ " تدخل على الذي، لأنها تأتي للجنس كقوله - تعالى - :﴿وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر : ٣٣] ونحوه :
١٥٦
٣٦٣٥ - " وكُلُّ الذي " حَمَّلْتَنِي أتحَمَّلُ
يعني أنه لا بد " من تأويل " الموصول بالعموم حتى تصح إضافة " كُل " إليه، ومتى أريد به معهود بعينه لشخص استحال إضافة " كُلّ " إليه.
و " آتِ الرَّحْمَنِ " خبر " كل " جعل مفرداً حملاً على لفظها، ولو جمع لجاز، وقد تقدم أول الكتاب : أنها متى أضيفت لمعرفة جاز الوجهان.
وقد تكلم السهيلي في ذلك فقال :" كُلُّ " إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني لمعرفة فلا يحسن إلا أفراد الخبر حملاً على المعنى، تقول : كُلكم ذاهب، أي : كل واحد " منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح.
فإن قلت في قوله :﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ﴾ : إنما هو حمل على اللفظ، لأنه اسم مفرد.
قلنا : بل هو اسم للجمع، واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول : القوم ذاهبُون، ولا تقول : ذاهب، وإن كان لفظ " القَوْم " لفظ المفرد، وإنما حسن " كُلكُم ذاهِبٌ " لأنهم يقولون : كل واحد منكم ذاهب، فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى.
قال أبو حيان : ويحتاج " كُلكُم ذاهِبُون " ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب.
قال شهاب الدين : وتسمية الإفراد حملاً على المعنى غير الاصطلاح بل ذلك
١٥٧
حمل على اللفظ والجمع هو الحمل على المعنى.
وقال أبو البقاء : ووحد " آتِي " حملاً على لفظ " كُل "، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها.
قال شهاب الدين : قوله : في موضع آخر.
إن عني في القرآن فلم يأت الجمع إلا و " كُل " مقطوعة عن الإضافة نحو ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء : ٣٣] ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل : ٨٧]، وإن عني في فيحتاج إلى سماع عن العرب كما تقدم.
والجمهور على إضافة " آتي " إلى " الرَّحمَن ".
وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنويه ونصب " الرَّحْمَن " وانتصب " عَبْداً " و " فَرْداً " على الحال.
فصل المعنى : أن كل معبود من الملائكة في السموات وفي الأرض من الناس إلا ياتي الرحمن يلتجئ إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد.
ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة.
والأول أولى، لأنه لا تخصيص فيه.
﴿لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾ أي : عدَّ أنفاسهم وأيامهم وآثارهم، فكلهم تحت تدبيره وقهره محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم، ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ﴾ أي : كل واحد منهم يأتيه ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾ وحيداً ليس معه من الدنيا شيء " ويبرأ المشركون منهم ".
قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخر السورة.
١٥٨
لمَّا ردَّ على الكفرة، وشرح أقوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين.
قوله :" وُدَّا " العامة على ضم الواو.
وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها، وجناح بن حبيش بكسرها.
فيحتمل أن يكون المفتوح مصدراً، والمكسور والمضموم اسمين.
قال المفسرون : سَيَجْعَلُ لهُم الرَّحمنُ محبةً، قال مجاهد : يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين.
قال رسول الله ﷺ :" إذَا أحبَّ اللهُ العبد قال لجبريل - عليه السلام - :" قَدْ أحبَّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبه أهلُ السَّماء، ثُمَّ يوضعُ لهُ القبُولُ في الأرضِ، وإذا أبغضَ العبد " قال مالك : لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك.
والسِّين في " سَيَجِعَلُ " إما لأن السورة مكية، وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة، فوعدهم الله ذلك إذا جاء الإسلام.
والمعنى : سَيُحْدِثُ لهم في القلوب مودة.
وإمَّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم.
روي عن كعب قال : مكتوب في التوراة لا
١٥٩


الصفحة التالية
Icon