والوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل : ٦٨] ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة : ١١] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه : الأول : أنه رؤيا رأتها أم موسى، وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت، وقذفه في البحر، وأن الله تعالى يرده إليها.
الثاني : أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.
الثالث : المراد منه خطور البال وغلبته على القلب.
فإن قيل : الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك، وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعونَ، فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانَة عن الثاني ؟ فالجواب لعلَّها عرفت بالاستقراء صدقَ رؤياها، فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقع الولد في يد فرعون، أو لعله أوْحَى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشُعَيْب أو غيره، ثم أن ذلك النبي عرفها إمّا مشافهة، أو مراسلة.
واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحجقها الخوف.
وأجيب : ذلك الخوف كان من لوازم البشرية، كما أن موسى - عليه السلام - كان يخاف من فرعون مع أن الله - تعالى - كان أمره بالذهاب إليه مروراً.
الرابع من الأوجه : لعل بعض الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب - عليهم السلام - أخبروا بذلك الخبر، وانتهى ذلك الخبر إلى أمه.
أو لعل الله بَعَثَ إليها مَلَكَاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله :﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ [مريم : ١٧].
٢٣٣
وأما قوله :" مَا يُوحى " معناه : أوحينا إلى أمِّكَ ما يجب أن يُوحى، وإنما وجب ذلك الوحي، لأن الواقعة عظيمة، ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي، فكان الوحي فيها واجباً.
قوله :" أَن اقْذِفِيهِ " يجوز أن تكون " أَنْ " مفسِّرة، لأن الوحي بمعنى القول، ولم يذكر الزمخشري غيره.
وجوز غيره أن تكون مصدرية، ومحلها حينئذ النصب بدلاً من " مَا يُوحَى " والضمائر في (قوله :" أن) اقْذِفِيه إلى آخِرِهَا عائدة على موسى - عليه السلام - لأنه المحدِّث عنه.
وجوَّز بعضهم أن يعود الضمير في قوله :﴿فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى - عليه السلام - وعَابَه الزمخشري وجعله تنافراً ومُخْرِجَاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال : والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم، فإن قلت : المقذُوفُ في البحر هو التابوتُ، وكذلك الملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسِّر.
قال أبو حيَّان : ولقائلٍ أن يقول : إن الضمير إذا كانَ صالحاً لأن يعود على
٢٣٤
الأقرب وعلى الأبعد، كان عوده على الأقرب راجحاً، وقد نص النحويون على هذا، فعوده على التابوت في قوله :﴿فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ﴾ راجح، والجواب : أن أحدهما إذا كان محدِّثاً عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدِّث عنه أرجح، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن جزم في دعواه أن الضمير في قوله تعالى :" فَإنَّه رِجْسٌ " عائد على (خِنْزِير) لا على (لَحْم)، لكونه أقرب مذكور، فيحرم بذلك شحمه، وغضروفه وعظمه وجلده، فإن المحدِّث عنه هو لحم خنزير لا خنزير.
وقد تقدمت هذه المسألة في الأنعام.
قوله :" فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ " هذا أمر معناه الخبر، ولكونه أمراً لفظاً جُزم جوابُه في قوله " يَأْخُذُه "، وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطعُ الأفعال ولآكدها، قال الزمخشري : لما كانت مشيئةُ الله وإرادته أن يجري ماءُ اليَمِّ، ويلقى بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليَمَّ كأنَّه ذو تمييزٍ أمر بلك ليطيع الأمر، ويتمثل رسمه فقيل :﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾.
و " بالسَّاحِلِ " يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال.
أي : ملتبساً بالسَّاحل.
وأن يتعلق ينفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى
٢٣٥


الصفحة التالية
Icon