التي تطابق الإبصار، والأذن الهيئة التي تطابق الاستماع وتوافقه، وكذلك اليد والرجل واللسان.
قاله مجاهد.
أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحَجْر زوجين، والناقة والبعير، والرجل والمرأة، ولم يزاوج شيئاً منها غير جنسه، ولا ما هو مخالف لخلقه.
(وقيل : المعنى أَعْطَى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خلقهُ، أي هو الذي ابتدعه).
وقيل : المعنى أعطى كُلَّ شيءٍ مما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا بالعكس، بل خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً.
الثاني : أن يكون " كُلَّ شَيْءٍ " مفعولاً ثانياً و " خَلْقَه " هو الأول فقدَّم الثاني عليه، والمعنى : أعطى خليقَتَه كلَّ شيء يحتاجُون إليه ويرتفقون به.
وقرأ عبد الله والحسن والأعمش وأبو نُهَيْك وابن أبي إسحاق ونصرٌ عن الكسائيِّ وجماعةٌ من أصحاب رسول الله " خَلَقَهُ " بفتح اللام فعلاً ماضياً، وهذه الجملة في هذه القراءة تحتمل أن تكون منصوبة المحلِّ لكلِّ أو في محل جرّ صفة لشيء.
وهذا معنى قول الزمخشري : صفة المضاف يعني " كُلّ " (أو للمضاف إليه يعني " شَيْء " )، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف، فيحتمل أن يكون حذفه حذف اختصار للدلالة عليه.
أي : أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ويصلحه أو كماله، ويحتمل أن يكون حذفه حذف اقتصار)، والمعنى أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه الله
٢٦٣
تعالى لم يُخْلِهِ من إنعامه وعطائه.
فصل اعلم أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر، ثم إن موسى لما دعاه إلى ربه لم يبطش به، ولم يؤذه، فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة، وذلك يدل على السفاهة من غير حجة شيء لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ؟ ثم إن فرعون لما سأل موسى - عليه السلام - عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال، واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع، وذلك يدل على فساد التقليد، ويدل أيضاً على قول التعليمية الذين يقولون : نستفيد معرفة الإله من قول الرسول، لأن موسى - عليه السلام - اعترف هاهنا بأن معرفة الله تجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول.
ودلت الآية أيضاً على أنه يجوز حكاية كلام المبطِل، لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله، وحكى شبهات منكري النبوة، وشبهات منكري الحشر إلا أنه يجب أن يذكر الجواب مقروناً بالسؤال (كما فعل الله تعالى في هذه المواضع لئلا يبقى الشك).
ودلت الآية على ان المحق يجب عليه استماع كلام المبطِل عنه من غير إيذاء ولا إيحاش، كما فعل موسى عليه السلام بفرعون هاهنا، ولقوله تعالى :﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل : ١٢٥]، وقال :﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ [التوبة : ٦].
فصل قال بعضهم : إنَّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلا أنه كانَ يُظْهِرُ الإنكار تكبراً
٢٦٤
وتجبراً، لقوله تعالى :﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الإسراء : ١٠٢] فيمن نصب التاء في " عَلِمْتَ " كان ذلك خطاباً لموسى - عليه السلام - مع فرعون، وذلك يدل على أن فرعون كان عالماً بذلك، وقوله :﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل : ١٤].
ولأنه لو لم يكن عاقلاً لم يجز تكليفه، والعاقل بعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم، ويعلم أن من كان كذلك افتقر إلى مدبَِّر، وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبِّر، ولأن قول موسى - عليه السلام - ﴿رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ يقتضي ذلك، لأن كلمة " الَّذِي " تقتضي وصف المعرفة بجملةٍ معلومةٍ عند المخاطب.
وأيضاً فإن مُلْك فرعون لم يتجاوز القبطَ، ولم يبلغ الشام، ولما هرب موسى إلى مَدْيَنَ قال له شعيبٌ :﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ﴾ [القصص : ٣١]، فمع هذا يعتقد أنَّه إله العالم ؟ وقال آخرون : إنَّه كانَ جاهلاً بربِّه.
واتفقوا على أنَّ العاقل لا يَجُوزُ أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرض والشمس والقمر، وأنه خالقُ نفسه، لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها، ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله، فَحَصَلَ له العلم الضروري بأنه ليس موجداً لها ولا خالقاً لها.
واختلفوا في كيفية جَهْلِه بالله تعالى، فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمدبِّر، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة الموجبة، وبحتمل أنه كان من عبدة الكواكب، ويحتمل أنه كان من الحلوليَّة، وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له.
فصل قال هاهنا :﴿فَمَن رَّبُّكُمَا يا مُوسَى ﴾، وقال في سورة الشعراء :{وَمَا رَبُّ
٢٦٥